ولا تَنزِعْ عنِّي صالحَ ما أعْطَيْتنِي أبداً، ولا تَجْعَلْ معِيْشتِي كدّاً، واجعل لِي في الأرضِ جداً " قوله :﴿وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً﴾.
يجوز الفتحُ، أي : أوحى الله إليه أنه، ويجوز الكسر على الاستئناف، و " عَبْدُ اللَّهِ " هو محمد ﷺ حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن حسب ما تقدم أول اسورة..
" يَدعُوهُ "، أي : يعبده.
وقال ابن جريج :" يَدْعوهُ "، أي : قام إليهم داعياً إلى الله تعالى، فهو في موضع الحالِ، أي : يوحد الله.
﴿كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً﴾.
قال الزُّبيرُ بن العوام : هم الجنُّ حين استمعوا القرآن من النبي ﷺ أي : كاد يركب بعضهم بعضاً ازدحاماً عيه ويسقطون حرصاً على سماع القرآنِ العظيم.
وقيل : كادوا يركبونه حرصاً، قاله الضحاكُ.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : رغبة في سماع القرآن.
يروى عن مكحول : أن الجنَّ بايعوا رسول الله ﷺ في هذه الليلة، وكانوا سبعين ألفاً، وفرغوا من بيعه عند الفجر.
وعن ابن عباس أيضاً : أن هذا من قول الجنِّ لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب النبي ﷺ وائتمامهم به في الركوع والسجود.
وقيل : كاد الجنُّ يركب بعضهم بعضاً حرصاً على النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الحسن وقتادة وابن زيد :" لمَّا قَامَ عبدُ اللَّهِ " محمد بالدعوة تلبدت الإنس، والجن على هذا الأمر ليطفئوه فأبى اللَّهُ تعالى إلاَّ أن ينصره ويتم نوره، واختار الطبريُّ
٤٣٤
أن يكون المعنى كادت العربُ يجتمعون على النبي ﷺ ويتظاهرون على إطفاء النورِ الذي جاء به.
قال مجاهد : اللِّبَد : الجماعات.
قوله " لِبَداً " : قرأ هشام : بضم اللام، والباقون : بكسرها.
فالأولى : جمع " لُبْدَة " - بضم اللام - نحو " غُرفَة وغُرَف ".
وقيل : بل هو اسم مفرد صفة من الصفات نحو " حطم " وعليه قوله تعالى ﴿مَالاً لُّبَداً﴾ [البلد : ٦].
وأما الثانية : فجمع " لِبْدة " - بالكسر - نحو " قربة وقِرَب ".
واللبدة : الشيء المتلبد، أي : المتراكب بعضه على بعض، ومنه قولهم " لبدة الأسد ".
كقول زهير :[الطويل] ٤٩١٢ - لَدَى أسَدٍ شَاكٍ السِّلاحِ مُقذَّفٍ
لَهُ لِبَدٌ أظفَارُهُ لم تُقلَّمِ
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٤٠٤
ومنه : الللبد ؛ لتلبُّد بعضه فوق بعض، ولبد : اسم نسر لقمان بن عاد، عاش مائتي سنةٍ، حتى قالوا : أطال اللَّهُ الأمد على لبد.
والمعنى : كادت الجنُّ يكونون عليه جماعات متراكمة متزاحمين عليه كاللبد.
وقرأ الحسن والجحدريُّ :" لُبُداً " - بضمتين - ورواها جماعة عن أبي عمرو.
وهي تحتمل وجهين : أحدهما : أنه جمع " لَبْد " نحو " رَهْن " جمع " رُهُن ".
والثاني : أنه جمع " لَبُود " نحو " صَبُور، وصُبُر " وهو بناء مبالغة أيضاً.
وقرأ ابن محيصن : بضمة وسكون، فيجوز أن تكون هذه مخففة من القرآن التي قبلها ويجوز أن يكون وصفاً برأسه.
وقرأ الحسن والجحدريُّ أيضاً :" لُبَّداً " - بضم اللام وتشديد الباء، وهي غريبة جداً.
وقيل : وهو جمع " لابد " كـ " ساجد وسُجَّد، وراكع ورُكَّع ".
٤٣٥
وقرأ أبو رجاء : بكسر اللام، وكسر الباء، وهي غريبة أيضاً.
وقيل : اللُّبَد - بضم اللام وفتح الباء - : الشيء الدائم، واللبد أيضاً : الذي لا يسافر ولا يبرح ؛ قال الشاعر :[البسيط] ٤٩١٣ - من امْرِىءٍ سماحٍ لا تزَالُ لَهُ
بَزْلاءُ يَعْيَا بِهَا الجثَّامةُ اللُّبَدُ
ويروى : اللَّبد، قال أبو عبيد : وهو أشبه، ويقال : ألبدت القربة جعلتها في لبيد.
ولبيد : اسم شاعر من بني عامر.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٤٠٤
قوله :﴿إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي﴾، قرأ عاصم وحمزةُ : بلفظ الأمر التفاتاً، أي : قل يا محمد، والباقون :" قال " إخباراً عن " عبد الله " وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
قال الجحدريُّ : وهي في المصحف كذلك.
وقد تقدم لذلك نظائر في ﴿قل سبحان ربي﴾ آخر " الإسراء "، وكذا في أول " الأنبياء " وآخرها، وآخر " المؤمنون ".
قال المفسرون : سبب نزولِ هذه الآية أنَّ كفار قريش قالوا له : إنَّك جئت بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا ونحن نجيرك، فنزلت.
قوله :﴿قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً ولا رشدا﴾.
قرأ الأعرج :" رُشُداً " - بضمتين -.
وجعل الضر عبارة عن الغي ؛ لأن الضرر سبب عن الغي وثمرته، فأقام المسبب مقام السبب، والأصل : لا أملك غياً، ولا رشداً، فذكر الأهم.
وقيل : بل في الكلام حذف، والأصل : لا أملكُ لَكُمْ ضراً ولا نَفْعاً ولا غيّاً ولا رشداً فحذف من كل واحدٍ ما يدل مقابله عليه.