حرف ابتداءٍ، فما بعدها ليس في موضع جر خلافاً للزجاج، وابن درستويه، فإنهما زعما أنها إذا كان حرف ابتداءٍ فالجملة الابتدائية بعدها في موضع جر، وإن عنى بالتعلق اتصال ما بعدها بما قبلها وكون ما بعدها غاية لما قبلها، فهو صحيح، وأما تقديره : أنها تتعلق بقوله :﴿يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً﴾ فهو بعيد جداً لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة وقدر بعضهم ذلك المحذوف، فقال : تقديره : دعهم حتَّى إذا رأوا.
وقال التبريزي : جاز أن يكون غاية لمحذوف، ولم يبيِّن ما هو.
وقال أبو حيان :" والذي يظهر لي أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم بكينونة النار لهم كأنه قيل : إن العاصي يحكم له بكينونة النار، والحكم بذلك هو وعيد حتى إذا رأوا ما حكم بكينونته لهم فيسعلمون ".
قوله :﴿وَمَنْ أَضْعَفُ﴾.
يجوز في " مَنْ " أن تكون استفهامية فترفع بالابتداء، و " أضْعَفُ " خبره، والجملة في موضع نصب سادَّةٌ مسدَّ المفعولين لأنها معلقة للعلم قبلها.
وأن تكون موصولة، و " أضعف " خبر مبتدأ مضمر، أي : هو أضعف، والجملة صلة وعائدٌ حسن الحذف طول الصلة بالتمييز، والموصول مفعول للعلم بمعنى العِرفَان.
قال القرطبي :" حتى " هنا مبتدأ، أي " حتى أذا رأوا ما يوعدون " من عذاب الآخرة أو ما يوعدون من عذاب الدنيا، وهو القتل يوم بدر ﴿فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً﴾.
و " مَنْ " يظهر أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم، بكينونة النار لهم، كأنه قيل : إن العاصي أهم أم المؤمنون ؟ و " أقَلُّ عَداداً " معطوف.
اسم الكتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
و " مُلتَحداً " مفعول " أحد " لأنها بمعنى " أصيب " قوله ﴿إِلاَّ بَلاَغاً﴾، فيه وجوه : أحدها : أنه استثناء منقطع، أي : لكن إن بلغت عن الله رحمتي، لأن البلاغ من الله - تبارك وتعالى - لا يكونُ داخلاً تحت قوله :﴿وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾.
لأنه لا يكون من دون الله - عز وجل - وبعنايته وتوفيقه.
والثاني : أنَّه متصل، وتأويله، أن الإجارة مستعارة للبلاغ، أو هو سببها أو بسبب رحمته تعالى، والمعنى لن أجِدَ شيئاً أميل إليه وأعتصمُ به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيرني، وإذا كان متصلاً جاز نصبه من وجهين : أحدهما : أن يكون بدلاً من " مُلتحَداً " لأن الكلام غير موجب، وهذا اختيار الزَّجاجِ.
٤٣٧
والثاني : أنه منصوب على الاستثناء.
الثالث : أنه مستثنى منقطع من قوله ﴿لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً﴾.
قال قتادة : أي : لا أملك إلا بلاغاً إليكم، وقرره الزمخشري، فقال : أي : لا أملك لكم إلا بلاغاً من الله، وقيل :﴿إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ﴾ جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاسطاعة وعلى هذا فالاستثناء منقطع.
الرابع : أنَّ الكلام ليس استثناء، بل شرطاً، والأصل :" إن لا " فـ " إنْ " شرطية وفعلها محذوفٌ، لدلالة مصدره، والكلام الأول عليه، و " لا " نافية، والتقدير :" إن لا أبلغ بلاغاً من الله فلن يجيرني من الله أحدٌ ".
وجعلوا هذا كقول الآخر :[الوافر] ٤٩١٥ - فَطلِّقْهَا فلسْتَ لهَا بِكُفءٍ
وإلاَّ يَعْلُ مفْرِقَكَ الحُسامُ
أي : وإن لا تطلقها يعلُ، فحذف الشرط ونفى الجواب، وفي هذا الوجه ضعف من وجهين : أحدهما : أن حذف الشرط دون أدلته قليل جداً.
والثاني : أنَّه حذف الجزءان هنا، أعني الشرط والجزاء.
فيكون كقول الشاعر :[الرجز] ٤٩١٦ - قَالتْ بنَاتُ العَمِّ : يا سَلْمَى وإنْ
كَانَ فَقيراً مُعدماً، قالتْ : وإنْ
أي قالت : وإن كان فقيراً معدماً فقد رضيته.
وقد يقال : إن الجواب مذكور عند من يرى جواز تقديمه، وإما في قوة المنطوق به لدلالة ما قبله عليه.
وقال الحسنُ :﴿إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ﴾.
فإن فيه النجاة والأمان.
قوله ﴿مِّنَ اللَّهِ﴾.
فيه وجهان : أحدهما : أن " مِنْ " بمعنى " عَنْ " لأن " بلغ " يتعدى بها، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - :" ألاَ بلَّغُوا عنِّي " والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة لـ " بلاغ ".
قال الزمخشري :" مِنْ " ليست للتبليغ وإنما هي بمنزلة " مِنْ " في قوله تعالى ﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [التوبة : ١]، بمعنى :" بلاغاً كائناً من اللَّهِ ".
٤٣٨


الصفحة التالية
Icon