دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأعلمهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم، ودلالة صادقة على نبوتهم، وليس المنجم ومن ضاهاه ومن يضرب بالحصى وينظر في الكواكب ويزجر بالطير من ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وبتخمينه وكذبه.
قال بعض العلماء : وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان مختلفو الأحوال والرتب فيهم الملك، والسوقة، والظالم، والجاهل، والعالم والغني، والفقير، والكبير مع اختلاف طوالعهم، وتباين مواليدهم، ودرجات نجومهم، فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة، فإن قالك إنما أغرقهم الطالع الفلاني الذي ركبوا فيه، فيكون على مقتضى ذلك أن هذا الطالع أبطل أحكام هذه الطوالع كلَّها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم، وما يتضيه طالعه المخصوص به، فلا فائدة إذا ذاك في عمل المواليد، ولا دلالة فيها على شقي، ولا سعيد، ولم يبق إلا معاندة القرآن الكريم ؛ ولقد أحسن القائل :[الكامل] ٤٩١٧ - حَكَمَ المُنجِّمُ أنَّ طَالعَ مَولِدِي
يَقْضِي عَليَّ بِمَيتَةِ الغَرقِ
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٤٤١
قُلْ للمُنَجِّمِ صِبْحَةَ الطُّوفانِ هَلْ
وُلِدَ الجَمِيعُ بكَوكَبِ الغَرقِ ؟
وقيل لعلي - رضي الله عنه - لما أراد لقاء الخوارج : أتلقاهم والقمر لفي العقرب ؟ فقال : فأين قمرهم ؟ وكان ذلك في آخر الشهر.
فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها، وما فيها من البلاغة في الرد على من يقول بالتنجيم، وقال له مسافر بن عوف : يا أمير المؤمنين، لا تسرِ في هذه الساعة وسِرْ بعد ثلاث ساعاة يمضين من النهار، فقال له علي - رضي الله عنه - : ولم ؟.
قال : إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك، وأصاب أصحابك بلاءٌ، وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت، وظهرت وأصبت ما طلبت، فقال علي - رضي الله عنه - : ما كان لمحمد ﷺ ولا لأصحابه منجم، ولا لنا من بعده.
ثم قال : فمن صدقك في هذا القول ن آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله نداً، وضداً، اللَّهُمَّ لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ثم قال للمتكلم : نكذبك، ونخالفك، ونسير في الساعة التي تنهاها عنها، ثم أقبل على الناس فقال : أيها الناس، إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدوا به في ظلمات البر والبحر، إنما المنجم كافر، والكافر في النار، والمنجم كالساحر، والساحر في النار، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم، أو تعمل بها لأخلدنك في
٤٤٥
الحبس ما بقيتُ، ولأحرمنَّك العطاء، ما كان لي سلطان، ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها فلقي القوم فقتلهم، وهو وقعة " النَّهروان " الثابتة في " صحيح مسلم "، ثم قال : لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها، وظفرنا، وظهرنا لقال : إنَّما كان ذلك تنجيمي وما كان لمحمد ﷺ منجم، ولا لنا من بعده، وقد فتح الله علينا بلاد كسرى قيصر وسائر البلدان، ثم قال : يا أيها الناسُ، تولكوا على الله وثقوا به، فإنه يكفي ممن سواه.
قوله :﴿فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً﴾، يعني : ملائكة يحفظونه من أن يقرب منه شيطان، فيحفظه الوحي من استراق الشياطين والإلقاء إلى الكهنة.
قال الضحاك : ما بعث الله نبياً إلى ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين، أن يتشبهوا له بصورة الملك فإذا جاءه شيطان في صورة الملك، قالوا : هذا شيطان فاحذره، وإن جاء الملك قالوا : هذا رسول ربِّك.
وقال ابن عباس وابن زيد :" رَصَداً "، أي : حفظةُ يحفظون النبي ﷺ من أمامه، وورائه من الجن، والشياطين.
وقال قتادة وسعيد بن المسيِّب : هم أربعة من الملائكة حفظة يحفظون من أن يستمع الجن الوحي، فيلقونه إلى كهنتهم، فيسبقوا به الرسول.
وقال السديُّ :" رَصَداً " أي : حفظة يحفظون الوحي، مما جاء من عند الله، وما ألقاه الشيطان قالوا : إنه من الشيطان، و " رَصَداً " نصب على المفعول.
قال الجوهريُّ :" والرَّصدُ : القوم يرصدون كالحرس، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكور والمؤنث وربما قالوا : أرصاد للشيء : الراقب له، يقال : رصده يرصده رصْداً ورصَداً، والترَّصُّد : الترقب، والمرصد : موصع الرصد ".
قوله :﴿لِيَعْلَمَ﴾.
متعلق بـ " يَسْلكُ ".
والعامة : على بنائه للفاعل، وفيه خلاف.
أي : ليعلم محمد ﷺ أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة، قاله مقاتل وقتادة.
٤٤٦


الصفحة التالية
Icon