وكذلك العدوان بالسفر فرد آخر من أفرادها فإذن نفي العدوان يقتضي نفي العدوان من جميع هذه الجهات، فتخصيصه بالأكل غير جائز.
وثالثها : قوله تبارك وتعالى :﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المائدة : ٣] فبيَّن في هذه أن المضطرَّ إنما يترخَّص، إذا لم يكن متجانفاً لإثم، وهذا يؤيِّد ما قلناه من أن الآية الكريمة تقتضي ألاَّ يكون موصوفاً بالبغي والعدوان في أمر من الأمور.
احتجَّ أبو حنيفة - رضي الله عنه -، بوجوه : أحدها : قوله تعالى :﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ [الأنعام : ١١٩].
وهذا مضطرٌّ ؛ فوجب أن يترخَّص.
وثانيها : قوله تبارك وتعالى :﴿وَلاَ تَقْتُلُوا ااْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾ [النساء : ٢٩] ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة : ١٩٥]، والامتناع من الأكل سبب في قتل النَّفس، وإلقاء بها إلى التهلكة ؛ فوجب أن يحرَّم.
وثالثها : أنه - عليه الصلاة والسلام - رخَّص للمقيم يوماً وليلةً، وللمسافر ثلاثة أيَّامٍ ولياليهنَّ، ولم يفرق بين العاصي وغيره.
رابعها : أنَّ العاصي بسفره، إذا كان نائماً، فأشرف على غرقٍ، أو حرقٍ، يجب على الحاضر الَّذي يكون في الصلاة أن يقطع صلاته لإنجائه، فلأن يجب عليه في هذه الصورة : أن يسعى في إنقاذ مهجته أولى.
وخامسها : أن العاصي بسفره له أن يدفع عن نفسه أسباب الهلاك ؛ من الحيوانات الصَّائلة عليه، والحيَّة، والعقرب، بل يجب عليه، فكذا ههنا.
سادسها : أَنَّ العَاصِي بسَفَرهِ، إذا اضطُرَّ، فلو أباح له رجُلٌ شيئاً من ماله، فله أَخذُهُ، بل يجب دفع الضَّرر عن النَّفْس.
[سابعها : أَنَّ التوبةَ أَعْظَمُ في الوُجُوب وما ذاكَ إِلا لدفع ضررِ النَّار عن النَّفس]، وهي أعظمُ من كُلِّ ما يدفع المؤمنُ من المضارِّ عن نفسه ؛ فلذلك دفع ضرر الهلاكِ عن نفسه لهذا الأكلِ، وإن كان عاصياً.
وثامنها : أَنَّ الضرورة تبيحُ تناولَ طعامِ الغَيْر من دون رضَاهُ، بل على سَبيل القَهْر، وهذا التناوُلُ يَحْرُم لولا الاضطرارُ، فكذا ههنا.
وأُجيبُ عن التمسُّك بالعُمُومات ؛ بأَنَّ دليلنا النَّافي للترخّص أخصُّ دلائِلِهِمْ
١٨٢
المرخِّصة والخاصُّ متقدَّم على العامِّ، وعن الوجوه القياسيَّة بأنه يمكنُه الوصُول إِلى استباحةِ هذه الرخص بالتَّوبة، فإذا لم يتُبْ، فهو الجانِي على نَفْسه، ثم تُعَارَضُ هذه الوجوهُ : بأنَّ الرخصة إِعَانَةٌ على السَّفَر، فإذا كان السَّفر معصيةً، كانت الرخصةُ إِعَانَةً على المعصية، والمعصية ممنوعٌ منها، والإعَانَةُ سعيٌ في تحصيلها ؛ فالجمع بينهما مُتناقضٌ.
فصل في اختلافهم في اختيار المضطرِّين المحرَّمات اختلفُوا في المضطرِّ، إذا وجد كلَّ ما يضطرُّ مِنَ المحرَّمات.
فالأكثرون على أنَّه مخيَّر بين الكُلِّ، ومنهم من قال : يتناوَلُ الميتة، دون لَحْم الخنزير ويعد لحم الخنزير أَعظَمَ في التَّحريم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٧٠
قال ابن عبَّاس : نزلَت في رؤوس اليهود : كعبِ بنِ الأَشْرفِ وكعْبِ بن أسدٍ، ومالك بنِ الصيف، وحُييِّ بن أخطَبَ، وأبي ياسرِ بنِ أخطَبَ ؛ كانوا يأخذون من أتباعهم الهَدَايا، وكانُوا يَرجُون أن يكُونَ النبيُّ المَبْعُوثُ منهم، فلما بُعِثَ محمَّدٌ عليه الصَّلاة والسَّلام من غيرهم خافُوا انقطَاع تلك المنافِع ؛ فكتموا أمر مُحَمَّد ﷺ بأنْ غيَّروا صِفَتَه، ثم أخرَجُوها إليهم، فإذا ظَهَرت السفلة على النَّعتِ المغيَّر، وجدوه مخالفاً لصفتِهِ ﷺ، لا يتبعونَه، فأنزل الله تبارَكَ وتعالى هذه الآية.
قال القرطبيُّ : ومعنى " أَنْزَلَ " : أظْهَرَ ؛ كما قال تعالى :﴿وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ﴾ [الأنعام : ٩٣] أي : سأُظْهِر وقيل : هو على بابِهِ من النُّزول، أي : ما أَنْزَل به ملائكتَهُ على رُسُله.
قوله :" مِنَ الْكِتَابِ " : في محلِّ نصْبٍ، على الحال، وفي صاحبها وجهان : أحدهما : أَنَّهُ العائِدُ على الموصول، تقديره :" أَنْزَلَهُ اللَّهُ " حال كونه " مِنَ الكِتَابِ " فالعاملُ فيه " أَنْزَلَ ".
والثاني : أنه المُوصول نَفسُه، فالعامل في الحال " يَكْتُمونَ ".
قوله :" وَيَشْترونَ بِهِ " : الضميرُ في " بِهِ " يُحْتَمَل أن يعود على " ما " الموصولة، وأن يعودَ على الكَتْم المفهومِ من قوله :" يَكْتُمُونَ "، وأَنْ يعودَ على الكتابِ، والأَوَّلُ أَظهَرُ،
١٨٣


الصفحة التالية
Icon