أَكَلُوه من الرُّشَا ناراً ؛ لأَنَّهُ يؤدِّيهم إلى النار، قاله أكثر المفسِّرين.
وقيل : إِنَّهُ يعاقبهم على كتمانهم بأكل النَّار في جهنم حقيقةً فأَخْبَر عن المآل بالحالِ ؛ كما قال تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً﴾ [النساء : ١٠]، أي عاقبتهم تئُولُ إلى ذلك، ومنْه قَوْلُ القائل :[الوافر] ٩٠٧ - لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ
..............................
وقال القائِل [المتقارب] ٩٠٨ -.........................
فَلِلْمَوْتِ مَا تَلِدُ الْوَالِدَهْ
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٨٣
وقال آخر :[البسيط] ٩٠٩ -........................
وَدُورُنَا لِخَرابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا
يةُ تدُلُّ على تحريم الرَّشْوَة على الباطل.
قوله :﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾ ظَاهِرهُ : أَنَّهُ لا يكلِّمهم أصلاً، لكنه لما أوردَهُ مَوْرِدَ الوعيد، فهم منه ما يجري مَجْرَى العقوبة وذكَروُوا فيه ثلاثة أَوْجِهٍ : الأوَّل : قد دَلَّ الدَّليلُ على أَنَّه سبحانَهُ وتعالى يكلِّمهم ؛ وذلك قولُهُ ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الحجر : ٩٢].
وقوله ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف : ٦] فعرفنا أَنَّهُ يسأل كلُّ واحدٍ من المكلَّفين، والسؤال لا يكونُ إِلاَّ بكَلاَم، فقالوا : وجب أنْ يكُون المرادُ من الآية الكريمة أنه تعالى لا يكلِّمهم بتحيَّةٍ وسلام وخَيْرٍ، وإنما يكلِّمهم بما يعظم عندهم من الحَسْرة والغَمِّ ؛ من المناقشة والمُسَاءلة كقوله تعالى ﴿اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون : ١٠٨].
الثاني : أنَّه تبارك وتعالى لا يكلِّمهم أَصْلاً، وأَمَّا قوله تعالى : فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} إنما يكون السؤال من الملائكة بأمره تعالى، وإنَّما كان عدَمُ تكليمهم في مَعْرِضِ
١٨٦
التَّهْديد ؛ لأَنَّ [يومَ القيامة هُو اليَوْمُ الذي يكلِّم الله تعالى فيه كلَّ الخلائق بلا واسطةٍ، فيظهر] عند كلامِهِ السُّرُورُ في أوليائه، وضده في أعدائِهِ ويتميَّز أهلُ الجَنَّة بذلك، من أهلِ النار.
فلا جَرَم كان ذلك من أعظَمِ الوعيد.
الثالث : أن قوله :" وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ " استعارةٌ عن الغَضَب ؛ لأنَّ عادةَ المُلُوك أنَّهُم عند الغَضَب يعرضُون عن المَغْضُوب عليه، ولا يكلِّموه ؛ كما أنَّهُم عند الرضَا يُقْبِلُون علَيْه بالوجه والحديث.
وقوله " وَلاَ يُزكِّيهِم " فيه وجوه : الأوَّل : لا يسنبهم إلى التَّزكية، ولا يُثْنِي عليهم.
الثاني : لا يقْبَل أعمالَهُمْ ؛ كام يقبل أَعْمَال الأولياء.
الثالث : لا ينزلُهم منازل الأولياء.
وقيل : لا يُصْلِحُ عمالهم الخبيثة، فيطهرهم.
قولُهُ ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، اعْلَمْ : أنَ الفعيل قد يكون بمعنى المفعول ؛ كالجريح والقتيل، بمعنى المجروح والمَقْتُول، وقد يكُونُ بمعنى " المُفعل " ؛ كالبصير بمعنى المُبْصِر والأليم بمعنى المُؤلم.
واعلم أَنَّ العبرةَ بعُمُوم اللَّفْظِ، لا بخُصُوص السَّبَب، فالآية الكريمة وإن نزلت في اليهود، لكنَّها عامَّة في حقِّ كلِّ مَنْ كَتَم شيئاً من باب الدِّين.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٨٣
اعلم أنَّ أَحْسَنَ الأشياء في الدُّنيا الاهتداء والعلم وأقبح الأشياء الضَّلال والجَهْل فَلَمَّا تركُوا الهُدَى في الدُّنيا، ورضُوا بالضَّلال والجهل، فلا شَكَّ أَنَّهُمْ في نهاية الخَسَارة في الدنيا، وَأَمَّا في الآخرة، فأحسن الأشياء المَغْفِرة، وأخْسَرُها العذَابُ، فَلَمَّا صرفوا المغفرة، ورضُوا بالعَذَاب، فلا جَرَم : أنهم في نهاية الخَسَارة، ومَنْ كانت هذه صفتَهُ، فهو أعْظَمُ النَّاس خسارةً في الدُّنيا والآخِرَة.
قولُهُ ﴿فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ في " ما " هذه خمسةُ أقْوالٍ : أحدها : وهو قول سيبويه، والجُمهُور : أَنَّها نكرةُ تامَّةُ غير موصُولة، ولا
١٨٧