أتَانَا الرِّجالُ العَائِدُون القَساوِرُ
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٥٣٦
وقيل :" القسورة " : الأسد.
قاله أبو هريرة، وابن عباس أيضاً رضي الله عنه.
قال ابن عفرة : من القسْرِش بمعنى القهْرِ، أي : أنه يقهرُ السِّباع والحمر الوحشيَّة تهرب من السباع ؛ ومنه قول الشاعر :[الرجز] ٤٨٧٦ - مُضمرٌ يَحْذَرُهُ الأبطَالُ
كَأَنَّهُ القَسْوَرَةُ الرِّئبَالُ
أي : الأسد، إلا أن ابن عباس أنكره، وقال لا أعرف القسورة أسد في لغة أحد من العرب، وإنما السورة : عصبُ الرجال ؛ وأنشد :[الرجز]
٥٣٧
٤٩٧٧ - يضا بِنْتُ كُونِي خَيرةً لِخيِّرهْ
أخْوالُهَا الجِنُّ وأهْلُ القَسْوره
وقيل : القَسْورةُ : ظُلمَة الليل، قال ابن الأعرابيك وهو قول عكرمة.
وعن ابن عباس : ركز الناس ؛ أي حسُّهم وأصواتهم.
وعنه أيضاً :﴿فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ﴾ أي : من حبال الصيادين، وعنه أيضاً : القسورة بلسان " الحَبَشَةَ " الأسد، وخالفه عكرمة فقال : الأسد بلسان " الحبشة " : عَنْبَسة، وبلسان " الحبشة " : الرُّماة، وبلسان " فارس " : شير، وبلسان " النَّبْط " : أريا.
وقيل : هو أوَّل سواد الليل، ولا يقال لآخر سواد الليل : قسورة.
فصل في المراد بالحمر المستنفرة قال ابن عباس : كأن هؤلاء الكفار في فرارهم من محمد ﷺ مستنفرة، قال ابن عباس : أراد الحمر الوحشية.
قال الزمخشري : وفي تشبيههم بالحمر شهادة عليهم بالبله، ولا يرى مثلُ نفار حمر الوحش، واطرادها في العدوِ إذا خافت من شيء.
قوله تعالى :﴿فبَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً﴾، أي : يُعطى كُتُباً مفتوحةً، وذلك أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا : يا محمد، لا نُؤمِنُ بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه :" من رب العالمين "، إلى فلان ابن فلان، ونُؤمر فيه باتباعك، ونظيره :﴿وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ﴾ [الإسراء : ٩٣].
وقال ابن عباس : كانوا يقولون : إن كان محمد صادقاً فليصبح عند رأس كل واحدٍ منا صحيفةٌ فيها براءةٌ من النار.
وقال مطرٌ الوراق : أرادوا أن يعطوا بغير عمل.
٥٣٨
وقال الكلبي : قال المشركون : بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح عند رأسه مكتوباص ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك.
قال ابن الخطيب : وهذا من الصُّحف المنشَّرة بمعزل.
وقيل المعنى : أن يذكر بذكرٍ جميلٍ، فجعلت الصُّحفُ موضعَ الذِّكر مجازاً، فقالوا : إذا كانت ذنوب الإنسان تُكتَب عليه فما بالنا لا نرى ذلك ؟ ! قوله :" مُنشَّرة ".
العامة : على التشديد، من " نشَّرهُ " بالتضعيف.
وابن جبير :" مُنْتشرَةٌ " بالتخفيف، و " نشَّر، وأنشر " بمنزلة " نزّل وأنزَل " : والعامة أيضاً على ضمِّ الحاء من " صحُف ".
وابن جبي : على تسكينها.
قال أبو حيان :" والمحفوظ في الصحيفة والثوب :" نشَر " مخففاً ثلاثياً، وهذا مردود بالقرآن المتواتر ".
وقال أبو البقاء في قراءة ابن جبير :" من أنشرت، إما بمعنى أمر بنشرها مثل ألحمت عرض فلان، أو بمعنى منشورة، مثل : أحمدت الرجل، أو بمعنى : أنشر الله الميِّت أي : أحياه : فكأنه أحياها فيها بذكره ".
قوله :﴿كَلاَّ﴾، أي : ليس يكون ذلك.
وقيل : حقّاً، والأول أجود، لأنه ردٌّ لقوهم.
ثم قال :﴿لاَّ يَخَافُونَ الآخِرَةَ﴾ أي : لا أعطيهم ما يتمنُّون لأنهم لا يخافون الآخرة فلذلك أعرضوا عن التأمُّل اغتراراً بالدنيا ؛ فإنه لمَّا حصلت المعجزات الكثيرة في الدلالة على صحَّة النبوةِ فطلبُ الزيادة يكون عبثاً.
قوله :﴿كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ﴾.
أي : حقّاً أنَّ القرآن عظة.
وقيل : هذا ردع لهم عن إعراضهم عن التذكرة ﴿إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ﴾ بليغة ﴿فمن شاء ذكره﴾ أي : اتعظ به، وجعله نصب عينه.
والضمي في " إنه، وذكره " للتذكرة في قوله تعالى :﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ وإنما ذُكْرا ؛ لأنهما في معنى الذِّكر والقرآن.
٥٣٩
وقيل : الضمير في " إنه " للقرآن أو الوعيد.
قوله :﴿وَمَا يَذْكُرُونَ﴾.
قرأ نافع : بالخطاب، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب والباقون : بالغيبة حملاً على ما تقدم من قوله :" كُل امرىءٍ " ولم يُؤثِرُوا الالتفات.
وقراءة الخطاب، وهي اختيار أبي حاتم لأنه أعم.
وأما قراءة الغيبة فهي اختبار أبي عبيد لقوله تعالى :﴿كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ﴾ واتفقواعلى تخفيفها.
قوله :﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ﴾، بمعنى إلاَّ وقت مشيئته، لا أن ينوب عن الزمان، بل على حذف مضاف.
قالت المعتزلة : بل معناه : إلا أن يقدرهم الله - تعالى - على الذِّكر ويُهمَّهم إليه.
وأجيبوا : بأنه تعالى أبقى الذكر مطلقاً، واستثنى منه حال المشيئة المطلقة، فيلزم أنه متى حصلت المشيئةُ أن يحلَ الذَّكرُ مطلقاً، فحيث لم يحصل الذكر علمنا أنه لم تحصُلِ المشيئة وتخصيص المشيئة بالمشيئة القهريَّة ترك للظاهر.
قوله تعالى :﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾، أي : حقيقٌ بأن يتَّقيه عبادُه ويخَافُوا عِقابه فيُؤمِنوا ويُطِيعُوا، وحقيقٌ بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا وأطاعوا.
روى الترمذي وابن ماجة عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن رسول الله ﷺ أنه قال في قوله تعالى :﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾ قال : قال الله تعالى :" أنَّا أهْلُ أنْ أُتَّقَى فَمَن اتَّقَى فَلَمْ يَجْعَلْ مَعِي إلهاً فَأنَا أهْل أنْ أغْفِرَ لَهُ " وقال بعض المفسرين : أهل المغفرة لمن تاب إليه من الذنوب الكبائر، وأهل المغفرة أيضاً للذنوب الصغائر.
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله ﷺ :" من قرأ ﴿ يا أيها الْمُدَّثِّرُ﴾ أعْطِيَ من الأجْرِ عَشْرَ حَسناتٍ بعَددِ من صَدَّقَ بمُحمَّدٍ ﷺ وكذَّبه بـ " مكة " والله أعلم.
٥٤٠
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٥٣٦