بلى " نحن " قادرون " ﴿عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ والبنانُ عند العرب : الأصابع، واحدُها بنانةٌ ؛ قال عنترة :[الوافر] ٤٩٨٥ - وأنَّ المَوْتَ طَوْعُ يَدِي إذَا مَا
وصَلْتُ بَنانَهَا بالهِنْدُوَانِي
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٥٤١
فنبه بالبنان على بقية الأعضاء.
وأيضاً : فإنها أضعف العظام فخصها الله - عز وجل - بالذكر لذلك.
قال القتيب والزجاج : وزعموا أن الله تعلى لا يبعث الموتى، ولا يقدرعلى جمع العظام، فقال الله تعالى : بلى قادرين على أن نعيد السُّلاميات على صغرها، ونُؤلِّف بينها حتى تستوي، ومن قدر على هذا فهو على جميع الكبار أقدرُ.
وقال ابن عباس وعامة المفسرين :﴿عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخُفِّ البعير، أو كحافر الحمار، أو كظلفِ الخنزيرِ، ولا يمكنه أن يعمل به شيئاً ولنا فرقنا أصابعه حتى يفعل بها ما يشاء.
وقيل : نقدر أن نُعيد الإنسان في هيئة البهائم، فكيف في صورته التي كان عليها، وهو كقوله تعالى :﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [الواقعة : ٦٠، ٦١].
والقول الأول أشبه بمساق الآية.
فصل في الكلام على الآية قال ابن الخطيب رحمه الله : في الآية إشكالات : أحدها : ما المناسبة بين القيام والنَّفس اللوامة حتى جمع الله بينهما في القسم ؟.
وثانيها : على وقوع القيامة وثالثها : قال جل ذكره : أقسم بيوم القيامة ولم يقل : والقيامة، كما قال - عز وجل - في سائر السور :﴿وَالطُّورِ﴾ [الطور : ١] ﴿وَالذَّارِيَاتِ﴾ [الذاريات : ١]، ﴿وَالضُّحَى ﴾ [الضحى : ١].
والجواب عن الأول من وجوه : أحدها : أنَّ أحوال القيامة عجيبة جدّاً، ثُمَّ المقصود من إقامة القيامة إظهار أحوال النُّفوس على ما قال ﷺ :" مَنْ عَرفَ نَفْسَهُ عرَفَ رَبَّهُ " ومن أحولها العجيبة قوله تعالى :﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات : ٥٦]، وقوله تعالى :﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى
٥٤٧
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ﴾
[الأحزاب : ٧٢].
وقيل : القسم وقع بالنَّفس اللوامة على معنى التعظيم من حيث إنها أبداً يستحقرُ فعلها وجدُّها واجتهادها في طاعة الله تعالى.
وقيل : إنه - تعالى - أقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوامة تحقيراً لها ؛ لأن النفس اللوامة إمَّا أن تكون كافرة بالقيامة مع عظم أمرها، وإمَّا أن تكون فاسقة مقصرة في العمل، وعلى التقديرين فإنها تكون مستحقرة.
والجواب عن الثاني : أن المحقِّقين قالوا : القسم بهذه الأشياء قسم بربِّها وخالفها في الحقيقة، فكأنه قيل : أقسم برب القيامة على وقوع القيامة.
والجواب عن الثالث : أنه حيث أقسم، قال جل ذكره :" والذَّارياتِ "، وأما هنا فإنه سبحانه نفى كونه مقسماً بهذه الأشياء، فزال السؤال.
قوله تعالى :﴿بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾.
فيه وجهان : أحدهما : أن تكون " بل " لمرجد الإضراب والانتقال من غير عطف، أضرب عن الكلام الأول وأخذ في آخر.
الثاني : أنها عاطفة.
قال الزمخشري :" بل يريد " عطف على " أيحسب "، فيجوز أن يكون مثله استفهاماً، وأن يكون إيجاباً على أن يضرب عن مستفهم عنه إلى آخر، أو يضرب عن مستفهم عنه إلى موجب.
قال أبو حيان بعد ما حكى عن الزمخشري ما تقدَّم :" وهذه التقادير الثلاثة متكلَّفة لا تظهر ".
وقال شهاب الدين :" وليس هنا إلا تقديران، ومفعول " يُرِيد " محذوف يدل عليه التعليل في قوله تعالى :﴿لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾ والتقدير : يريد شهواته ومعاصيه فيمضي فيها دائماً أبداً و " أمامه " منصوب على الظَّرفِ، وأصله مكانٌ فاستعير هنا للزمان ".
والضمير في " أمَامَه " الظاهرُ عوده على الإنسان.
وقال ابن عباس : يعود على يوم القيامة بمعنى أنه يريد شهواته ليفجر في تكذيبه بالبعث بين يدي يوم القيامة.
فصل في تفسير الآية قال مجاهد والحسن وعكرمة والسدي بن جبير رضي الله عنهم : يقول : سوف أتوب حتى يأتيه الموت على أسوأ أحواله.
٥٤٨


الصفحة التالية
Icon