فصل في معنى الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه لم يصدق بالرسالة، " ولا صلى " أي : دعا لربه - عز وجل - وصلى على رسوله عليه الصلاة والسلام.
وقال قتادة :" فلا صدق " بكتاب الله " ولا صلى " لله تعالى.
[وقيل : لا صدق بمالٍ ذخراً له عند الله تعالى " ولا صلى " الصلوات التي أمر الله بها.
وقيل : فلا آمن بقلبه] ولا عمل ببدنه.
قيل : المراد أبو جهل.
وقيل : الإنسان المذكور في قوله :﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ﴾ [القيامة : ٣].
قوله :﴿وَلَـاكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ الاستدراك هنا واضح ؛ لأنه لا يلزم من نفي التصدق والصلاة، والتكذيب والتولي لأن كثيراً من المسلمين كذلك فاستدرك ذلك بأنه سببه التكذيب والتولي، ولهذا يضعف أن يحمل نفي التصديق على نفي تصديق الرسول - عليه الصلاة والسلام - لئلا يلزم التكرار فتقع " لكن " بين متوافقين، وهو لا يجوز.
قال القرطبي : ومعناه كذب بالقرآن، وتولى عن الإيمان.
قوله تعالى :﴿ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ﴾.
أي : يتبختر افتخاراً بذلك.
قاله مجاهد وغيره.
" يتَمطَّى " جملة حالية من فاعل " ذهب "، ويجوز أن يكون بمعنى شرع في التمطِّي، كقوله :[الطويل]
٥٠١١ - فَقامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسْيفهِ
٥٧٤
وتمطى - هنا - فيه قولان : أحدهما : أنه من " المَطَا " وهو الظهر، ومعناه : يَتبختَرُ أي يمد مطاه ويلويه تبختراً في مشيته.
الثاني : أن أصله " يتمطّط " أي يتمدّد، ومعناه : أنه يتمدد في مشيته تبختراً، ومن لازم التبختر ذلك فهو يقرب من معنى الأول، ويفارقه في مادته، إذ مادة " المطا " :" م ط و "، ومادة الثاني :" م ط ط "، وإنما أبدلت الطاء الثانية ياء كراهية اجتماع الأمثال نحو : تطيبت، وقصيت أظفاري، وقوله :[الراجز]
٥٠١٢ - تَقَضِّيَ البَازِي إذا البَازِي كَسَرْ
والمطيطاء : التبختر ومد اليدين في المشي، قال رسول الله ﷺ :" المُطَيْطَاءِ وخدَمتهُمْ من فَارِس والرَّومِ كان بَأسهُمْ بَيْنَهُمْ ".
و " المطيط " : الماء الخاثر أٍفل الحوض ؛ لأنه يتمطّط، أي : يمتدّ فيه.
وقال القرطبي : التمطط : هو التمدد من التكسُّل، والتثاقل فهو متثاقل عن الداعي إلى الحق، والتمطي يدل على قلة الاكتراث.
قوله :﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴾ تقدم الكلام عليه في أول سورة القتال، وإنما كررها هنا مبالغة في التهديد والوعيد، فهو تهديد بعد تهديد ووعيد بعد وعيد ؛ قالت الخنساء :[المتقارب] ٥٠١٣ - هَمَمْتُ بنَفْسِي كُلَّ الهُمومِ
فأولَى لِنفْسِيَ أوْلَى لَهَا
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٥٦٩
وقال أبو البقاء هنا :" وزن " أولى فيه قولان : أحدهما :" فَعْلَى " والألف فيه للإلحاق لا للتأنيث.
والثاني : هو " أفعل "، وهو على القولين هنا " علمٌ "، ولذلك لم ينون، ويدل عليه ما حكى أبو زيد في " النوادر " : هو أولاة - بالتاء - غير مصروف، لأنه صار علماً للوعيد، فصار كرجل اسمه أحمد، فعلى هذا يكون أولى مبتدأ، و " لك " الخبر.
٥٧٥
والثاني : أن يكون اسماً للفعل مبنياً، ومعناه : وليك شر بعد شر، و " لك " تبيين.
فصل في نزول الآية قال قتادة ومقاتل والكلبي :" خَرَجَ رَسُولُ الله ﷺ مِنَ المَسْجدِ ذَاتَ لَيْلةٍ فاسْتقَبلهُ أبُو جَهْل على بَابِ المَسْجدِ ممَّا يلي باب بني مَخْزُوم، فأخذ رسول الله ﷺ بيده، فهزه مرة أو مرتين ثم قال له رسول الله ﷺ :" أوْلَى لَكَ فأوْلَى، ثُمَّ أوْلَى لَكَ فأوْلَى " فقال أبو جهلٍ : أتُهدِّدنِي ؟ فواللَّهِ إنِّي لأعزُّ أهل هذا الوَادِي وأكْرمهُ، ولا تَسْتطِيعُ أنْتَ ولا ربُّكَ أن تَفْعَلا بِي شَيْئاً ثُمَّ انسَلَّ ذَاهِباً "، فأنزل الله - تعالى - كما قال الرسول الله عليه الصلاة والسلام.
ومعنى أوْلَى لَكَ يعني ويل لك ؛ قال الشاعر :[الوافر] ٥٠١٤ - فأوْلَى ثُمَّ أوْلَى ثُمَّ أوْلَى
وهَلْ لِلدَّرِّ يُحْلَبُ مِنْ مَرَدِّ ؟
وقيل : هو من المقلوب، كأنه قيل :" ويل " ثم أخر الحرف المعتل، والمعنى : الويل لك يوم تدخل النار ؛ وهذا التكرير كقوله :[الطويل] ٥٠١٥ -.................
لَكَ الوَيْلاتُ إنَّكَ مُرْجِلِي
أي لك الويل ثم الويل.
وقيل : معناه الذم لك أولى من تركه.
وقيل : المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب.
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى : قال الأصمعي " أولى " في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك كما تقول : قد وليت الهلاك، أي دانيت الهلاك، وأصله من " الولي " وهو القرب، قال تعالى :﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ﴾ [التوبة : ١٢٣] أي : يقربون منكم.
قال القرطبي :" وقيل : التكرير فيه على معنى من ألزم لك على عملك السيّىء الأول ثم الثاني والثالث والرابع ".
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٥٦٩
قوله :﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ﴾، أي : أيظن ابن آدم " أن يترك سُدى " أي : أن يخلى مهملاً، فلا يؤمر ولا ينهى.
قاله ابن زيد ومجاهد.