فالمعنى : أقد أتى، على التقرير والتقريب جميعاً، أي أتى على الإنسان قبل زمان قريب " حين من الدهر لم يكن " فيه ﴿شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾ أي : شيئاً منسيّاً غير مذكور انتهى.
فقوله " على التقرير " يعني المفهوم من الاستفهام، وهو الذي فهمه مكي من نفس " هل " لا تكون بمعنى " قد " إلا معها استفهام لفظاً كالبيت المتقدم، أو تقريراً كالآية الكريمة.
فلو قلت : هل جاء زيد، يعني : قد قام، من غير استفهام لم يجز.
وغره قد جعلها بمعنى " قد " من غير هذا القَيْدِ.
وبعضهم لا يجيز ذلك ألبتة ويتأول البيت المتقدم على أنه مما جمع فيه بين حرفي معنى للتأكيد، وحسن ذلك اختلاف لفظهما ؛ كقوله :[الطويل]
٥٠٢٠ - فأصْبَحْنَ لا يَسْألنَنِي عَنْ بِمَا بِهِ
فالباء بمعنى " عن " وهي مؤكدة لها، وإذا كانوا قد أكدوا مع اتفاق اللفظ ؛ كقوله :[الوافر] ٥٠٢١ - فَلاَ - واللهِ - لا يُلْفَى لِمَا بِي
ولا لِلمَا بِهِمْ أبَداً دَوَاءُ
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣
فلأن يؤكد مع اختلافه أحرى، ولم يذكر الزمخشري غير كونها بمعنى " قد "، وبقي على الزمخشري قيد آخر، وهو أن يقول : في الجمل الفعلية، لأنه متى دخلت " هل " على جملة اسمية استحال كونها بمعنى " قد " مختصة بالأفعال.
قال شهاب الدين : عندي أن هذا لا يرد لأنه تقرر أن " قد " لا تباشر الأسماء.
فصل في المراد بالإنسان المذكور في الآية قال قتادة والثوري وعكرمة والشعبي : إن المراد بالإنسان هنا آدم - عليه الصلاة والسلام - وهو مروي عن ابن عباس.
وقيل : المراد بالإنسان : بنو آدم لقوله تعالى :﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ﴾.
فالإنسان في الموضعين واحد وعلى هذا فيكون نظم الآية أحسن.
وقوله :﴿حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ﴾ قال ابن عباس في رواية الضحاك أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة، ثم من حمإ مسنون أربعين سنة، ثم من صلصال أربعين سنة، فتم خلقه في مائة وعشرين سنة، ثم نفخ فيه من الروح.
وحكى الماوردي عن ابن عباس - رضي الله عنه - : أن الحين المذكور هاهنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره.
وقال الحسن : خلق الله تبارك وتعالى كل الأشياء ما يرى وما لا يرى من دوابّ البر
والبحر في الأيام الست التي خلق الله - تعالى - فيها السماوات والأرض، وآخر ما خلق آدم - عليه الصلاة والسلام - فهو كقوله تعالى :﴿لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾.
فإن قيل : إن الطين والصلصال والحمأ المسنون قبل نفخ الروح فيه ما كان إنساناً، والآية تقتضي أنه مضى على الإنسان حال كونه إنساناً " حينٌ من الدَّهْرِ " مع أنه في ذلك الحين ما كان شيئاً مذكوراً.
فالجواب : أن الطين والصلصال إذا كان مصوراً بصورة الإنسان، ويكون محكوماً عيله بأنه سينفخ فيه الروح، ويصير إنساناً صح تسميته بأنه إنسان، ومن قال : إن الإنسان هوالنَّفس الناطقة، وأنها موجودة قبل وجود الأبدان فالإشكال عنهم زائل، واعلم أنَّ الغرض من هذا التنبيه على أن الإنسان محدث، وإذا كان كذلك فلا بد من محدث قادر.
قوله :" لم يكن " في هذه الجملة وجهان : أحدهما : أنها في موضع رفع نعتاً لـ " حين " بعد نعت، وعلى هذا فاعائد محذوف، تقديره : حين لم يكن فيه شيئاً مذكوراً.
والأول أظهر لفظاً ومعنى.
فصل في تفسير الآية روى الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾ لا في السماء ولا في الأرض.
وقيل : كان جسداً مصوراً تراباً وطيناً لا يعرف ولا يذكر، ولا يدري ما اسمه ولا ما يراد به ثم نفخ فيه الروح فصار مذكوراً.
قاله الفراء وقطرب وثعلب.
وقال يحيى بن سلام :﴿لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾ لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله، ولم يخلق حيواناً بعده، ومن قال : إنَّ المراد من الإنسان الجنس من ذرية آدم - عليه الصلاة والسلام - فالمراد بالحين تسعة أشهر مدة الحمل في بطن أمه ﴿لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾ إذ كان مضغة وعلقة ؛ لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له.
وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لما قرأ هذه الآية : ليتها تمَّت فلا نبتلى، أي ليت المدة التي أتت على آدم لم يكن شيئاً مذكوراً تمت على ذلم فلا يلد ولا يبتلى، أي ليت المدة التي أتت على آدم لم يكن شيئاً مذكوراً تمت على ذلك فلا يلد ولا يبتلى أولاده، وسمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رجلاً يقرأ :﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾ فقال : ليتها تمّت.
قوله :﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ﴾.
يعني ابن آدم من غير خلاف " من نُطْفَة " أي : من ماء يقطر وهو المنيّ، وكل ماء قليل في وعاء، فهو نطفة ؛ كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه :[الرجز] ٥٠٢٢ - مَا لِي أرَاكِ تَكْرَهِينَ الجَنَّهْ
هَلْ أنْتِ إلاَّ نُطفةٌ فِي شَنِّه ؟
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣