وثالثها : الإيمانُ بالمَلاَئكة، واليهودُ أخلُّوا بذلك ؛ حيْثُ أظْهَرُوا عداوة جِبْرِيلَ.
ورابعها : الإيمانُ بكُتُب الله تعالى، واليهودُ أخلُّوا بذلك، لأن مع قيام الدَّلائل على أنَّ القرآنَ كتابُ الله تعالى رَدُّوه ولم يقْبلُوه ؛ قال تعالى :﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة : ٨٥].
وخامسها : الإيمانُ بِالنَّبيِّين، واليَهُود أخلُّوا بذلك ؛ حيث قتلوا الأنْبياءَ ؛ على ما قال تعالى :﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [البقرة : ٦١] وطَعَنُوا في نبوَّة محمَّد - ﷺ -.
وسادسها : بَذْلُ الأمْوَالِ علَى وَفْقِ أمْرِ الله تعالى، واليهود أخلُّوا بذلك ؛ لأنَّهم يُلْقُون الشُّبُهات ؛ لِطَلَب المَال القَليلِح قال تبارك وتعالى :﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً﴾.
وسابعها : إقَامة الصَّلاة، وإيتاءُ الزَّكاة، واليهودُ كانوا يمنَعُون النَّاسَ منها.
وثامنها : الوفَاءُ بالعَهْد، واليهودُ نَقَضُوا العَهْد ؛ قال تبارك وتعالى :﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة : ٤٠].
وتاسعها : قوله :﴿فِي الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ والمرادُ بذلك المحافظةُ على الجهادِ، واليهودُ أخلُّوا بذلك ؛ حيْثُ كانُوا في غاية الخَوْف، والجبْنِ ؛ قال تعالى :﴿لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾ [الحشر : ١٤].
فإن قيل : نفى تبارك وتعالى أنْ يكُون التوجُّه إلى القْلَلةِ بِرّاً، ثم حَكَم بأنَّ البِرَّ بمجموع أمُر : أحدُها : الصَّلواتُ، ولا بُدَّ فيها من الاستقبال، فيلزَمُ التناقضُ.
فالجوابُ : أنَّ المفسِّرين اختلفُوا على أقْوَال : منها : أنَّ قوله تعالى :" لَيْسَ البِرّ " نَفْيٌ لكمالِ البِرِّ ولَيْسَ نَفْياً لأصْله ؛ كأنه قال :" لَيْسَ البِرُّ كلُّه هو هذا " ؛ فإنَّ البِرَّ اسمٌ من أسماء الخصالِ الحَمِيدة، واستقبال القبلة واحِدٌ منها، فلا يكونُ ذلك تمامَ البِرِّ.
الثاني : أنْ يكُونَ هذا نفياً لأصْلِ كَوْنه بِرّاً ؛ لأن استقبالَهُم للمشْرِق والمَغْرِب كان خَطَأً في وقُتِ النبيِّ - ﷺ - وَحِينَمَا نَسَخ الله تباركَ وتعالى ذلك ؛ بل كان ذلِكَ ممَّا لا يجُوز ؛ لأَنَّهُ عمل بمَنْسُوخ قد نهى الله عَنءه، وَمَا كَانَ كذلك، فهو لا يُعَدُّ من البِرِّ.
الثالث : أنَّ استقبالَ القِبْلة لا يكُون بِرّاً، إذ البِرُّ يتقدَّمه معرفةُ الله تعَالى، وإنَّما يكون بِرّاً، إذا أتَى بها مع الإيمانِ بِالله ورسُوله، فالإتيانُ بها دُونَ هذا الشَّرْط، لا يكونُ مِنْ أَفْعَال البِرِّ، إلاَّ إذا أتِيَ بها مع شَرْطه، كما أنَّ السَّجْدة لا تكُونُ مِنْ أفْعال البِرِّ، إلاَّ إذا أَتَى بها مع الإيمَانِ بالله ورسُوله.
١٩٤
ورُوِيَ أنَّه لَمَّا حُوِّلَت القبْلة، كَثُرَ الخَوْضُ في نَسْخِهَا، كأنه لا يُرَاعَى بطاعة الله تعالى إلاَّ الاستقبالُ ؛ فأنْزَلَ الله تعالَى هذه الآيَةَ ؛ كأنه تبارك وتعالى قال :" ما هذا الخَوضُ الشَّديدُ في أَمْر القِبْلَةِ مع الإعْرَاضِ عَنْ كُلِّ أَرْكَانِ الدِّين ".
قوله ﴿وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ في هذه الآية خَمْسَة أوجه : أحدها : أن " البِرَّ " اسم فاعل من : بَرَّ يَبَرُّ، فهو " برُّ " والأصل :" بَرِرٌ " بكسر الراء الأولى بزنة " فطِنٍ " فلمَّا أريد الإدغام، نقلت كسرة الرَّاء إلى الباء بعد سكبها حركتها ؛ فعلى هذه القراءة : لا يحتاج الكلام إلى حذف وتأويلٍ ؛ لأنَّ البِرَّ من صفات الأعيان ؛ كأنه قيل :" وَلكِنَّ الشخْصَ البِرَّ مَنْ آمن ".
الثاني : انَّ في الكلام حذف مضافٍ من الأوَّل، تقديره :" ولكنَّ ذا البِرِّ من آمن " ؛ كقوله تعالى :﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه : ١٣٢] أي : لذي التقوى ؛ وقوله ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ واللَّهُ﴾ [آل عمران : ١٦٣] أي : ذوو درجاتٍ، قاله الزَّجَّاج.
الثالث : أن يكون الحذف من الثاني : أي :" وَلكِنَّ البِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ " وهذا تخريجُ سيبويه، واختياره، وإنَّما اختاره ؛ لأنَّ السابق، إنَّما هو نفي كون البِرِّ هو تولية الوجهِ قبل المشرق والمغرب، فالذي يستدركُ، إنَّما هو من جنس ما ينفى ؛ ونظير ذلك :" لَيْسَ الكَرَمُ أنْ تَبْذُلَ دِرْهَماً، ولكَّن الكَرَمَ بذل الآلاَفِ " ولا يناسبُ :" ولكِنَّ الكَرِيمَ مَنْ يَبْذُلُ الآلاَفَ " وحذف المضاف كثيرٌ في الكلام، كقوله :﴿وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ [البقرة : ٩٣]، أي : حُبَّ العجل، ويقولون : الجود حاتم، والشعير زهير، والشجاعة عنترة، [وقال الشاعر :[الطويل] ٩١٢ -...........................
فَإِنَّما هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارُ
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩١