وثالثها : قال القاضي هذا من التشبيه العجيب لأن اللؤلؤ إذا كان متفرقاً يكون أحسن في المنظر لوقوع شعاع بعضه على البعض فيكون مخالفاً للمجتمع منه.
واعلم أنه تعالى لما ذكر تفصيل أحوال أهل الجنة، أتبعه بما يدل على أن هناك أموراً أعلى وأعظم من هذا القدر المذكور فقال ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً﴾.
فصل اعلم أن اللذات الدنيوية محصورة في أمور ثلاثة : قضاء الشهوة، وإمضاء الغضب، واللذة الخيالية التي يعبر عنها بحب المال والجاه، وكل ذلك مستحقر فإن الحيوانات الخسيسة قد تشارك الإنسان في واحد منها، فالملك الكبير الذي ذكره الله ههنا لا بد وأن يكون مغايراً لتلك اللذات الحقيرة، وما هو إلا أن تصير نفسه منتشقة بقدس الملكوت متحلية بجلال حضرة اللاهوت، وأما ما هو على أصول المتكلمين، فالوجه فيه أيضاً أنه الثواب والمنفعة المقرونة بالتعظيم فبين الله تعالى في الآيات المتقدمة تفصيل تلك المنافع وبين في هذه الآية حصول التعظيم وهو أن كل واحد منهم يكون كالملك العظيم، وأما المفسرون فمنهم من حمل هذا الملك الكبير على أن هناك منافع أزيد مما تقدم ذكره، قال ابن عباس لا يقدر واصف يصف حسنه ولا طيبه.
ويقال إن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام ويرى أقصاه كما يرى أدناه ؟ وقيل لا زوال له وقيل إذ أرادوا شيئاً حصل، ومنهم من حمله على التعظيم، فقال الكلبي هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله فيستأذن عليه، ولا يدخل عليه رسول رب العزة من الملائكة المقربين المطهرين إلا بعد الاستئذان.
فصل قال بعضهم قوله ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ﴾ خطاب لمحمد خاصة، والدليل عليه أن رجلاً قال لرسول الله ﷺ : أرأيت إن دخلت الجنة أترى عيناي ما ترى عيناك ؟ فقال نعم، فبكى حتى مات، وقال آخرون بل هو خطاب لكل أحد.
قوله :﴿عَالِيَهُمْ﴾.
قرأ نافع وحمزة : بسكون الياء وكسر الهاء، والباقون : بفتح الياء وضم الهاء، لما سكنت الياء كسر الهاء، ولما تحركت ضمت على ما تقدم في أول الكتاب.
فأما قراءة نافع وحمزة، ففيها أوجه :
٤١
أظهرها : أن يكون خبراً مقدماً، و " ثياب " مبتدأ مؤخر.
والثاني : أن " عاليهم " مبتدأ، و " ثياب " مرفوع على جهة الفاعلية، وإن لم يعتمد الوصف، وهذا قول الأخفش.
والثالث : أن " عاليهم " منصوب، وإنما سكن تخفيفاً.
قاله أبو البقاء.
وإذا كان منصوباً فسيأتي فيه أوجه، وهي واردة هنا، إلا أن تقدير الفتحة من المنقوص لا يجوز إلا في ضرورة أو شذوذ، وهذه القراءة متواترة، فلا ينبغي أن يقال به فيها، وأما قراءة من نصب، ففيه أوجه : أحدها : أنه ظرف خبر مقدم، و " ثياب " مبتدأ مؤخر، كأنه قيل : فوقهم ثياب.
قال أبو البقاء : لأن عاليهم بمعنى فوقهم.
قال ابن عطية : يجوز في النصب أن يكون على الظرف ؛ لأنه بمعنى فوقهم.
قال أبو حيان : وعالٍ وعالية اسم فاعل فيحتاج في إثبات كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولاً من كلام العرب :" عاليك أو عاليتك ثوب ".
قال شهاب الدين : قد وردت ألفاظه من صيغة أسماء الفاعلين ظروفاً، نحو خارج الدار، وداخلها وظاهرها، وباطنها، تقول : جلست خارج الدَّار، وكذلك البواقي، فكذلك هنا.
الثاني : أنه حال من الضمير في " عَلَيْهِم ".
الثالث : أنه حال من مفعول " حَسِبْتَهُمْ ".
الرابع : أنه حال من مضاف مقدر، أي : رأيت أهل نعيم وملكٍ كبير عاليهم، فـ " عَاليهم " حال من " أهل " المقدر، ذكر هذه الأوجه الثلاثة : الزمخشري، فإنه قال :" وعاليهم " بالنصب على أنه حال من الضمير في " يطوف عليهم " أو في " حسبتهم " أي : يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب، أو حسبتهم لؤلؤاً عالياً لهم ثياب، ويجوز أن يراد : رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب.
قال أبو حيان : أما أم يكون حالاً من الضمير في " حَسِبْتَهُمْ "، فإنه لا يعني إلا ضمير المفعول، وهو لا يعود إلا على " ولدان "، وهذا لا يصح ؛ لأن الضمائر الآتية بعد ذلك تدل على أنها للمعطوف عليهم من قوله تعالى ﴿وَحُلُّوا ااْ﴾، ﴿وَسَقَاهُمْ﴾ و ﴿إِنَّ هَـذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً﴾ وفلك الضمائر يجعل كذا وذلك كذا مع عدم الاحتياج إلى ذلك، والاضطرار إلى ذلك لا يجوز، وأما جعله حالاً من محذوف، وتقديره : أهل نعيم، فلا
٤٢


الصفحة التالية
Icon