قوله :﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا﴾.
يجوز أن يكون توكيداً لاسم " إن " وأن يكون فصلاً و " نَزَّلْنَا " على هذين الوجهين هو خبر " إن "، ويجوز أن يكون " نحن " مبتدأ، و " نَزَّلْنَا " خبره والجملة خبر " إنَّ ".
وقال مكي :" نَحْنُ " في موضع نصب على الصِّفة لاسم " إن " لأن الضمير يوصف بالمضمر ؛ إذ هو بمعنى التأكيد لا بمعنى الغلبةِ، ولا يوسف بالمظهر ؛ لأنه بمعنى التَّحلية والمضمر مستغن عن التحلية، لأنه لم يضمرْ إلا بعد تحليته وعينه، وهو محتاج إلى التأكيد لتأكيد الخبر عنه.
قال شهاب الدين : وهذه عبارة غريبة جدًّا، كيف يجعل المضمر موصوفاً بمثله،
٤٩
ولا نعلم خلافاً في عدم جواز وصف المضمر إلا ما نقل عن الكسائي أنه جوّز وصف ضمير الغائب بضمير آخر، فلا خرف في عدم جوازه، ثم كلامه يؤول إلى التأكيد فلا حاجة إلى العدول عنه.
فصل في مناسبة اتصال الآية بما قبلها وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنه تعالى لما ذكر الوعد والوعيد بين أن هذا الكتاب يتضمن ما بالناس حاجةً إليه، فليس بسحرٍ ولا كهانةٍ ولا شعرٍ وأنه حقٌّ.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - أنزل القرآن متفرقاً آية بعد آية، ولم ينزل جملة واحدة فلذلك قال :" نَزَّلْنَا ".
قال ابن الخطيب : المقصود من هذه الآية تثبيت الرسول وشرح صدره فيما نسبوه إليه من كهانة وسحر، فذكر تعالى أن ذلك وحي من الله تعالى ولا جرم بالغ في تكرار الضمير بعد إيقاعه تأكيداً على تأكيد فكأنه تعالى يقول : إن كان هؤلاء الكفار يقولون : إن ذلك كهانة فأنا الله الملك الحق، أقول على سبيل التأكيد : إن ذلك وحيٌ حقٌّ وتنزيلُ صدقٍ من عندي، وفي ذلك فائدتان : إحداهما : إزالة الوحشة الحاصلة بسبب طعن الكفار ؛ لأن الله - تعالى - عظّمهُ وصدقه.
والثانية : تقويته على تحمُّل مشاق التكليف، فكأنه - تعالى - يقول : إني ما نزلت عليك القرآن متفرقاً إلا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين، وقد اقتضت تلك الحكمة تأخير الإذن في القتال.
﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ أي : لقضاء ربك.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : اصبر على إذى المشركين، ثم نسخ بآية القتال.
وقيل : اصبرْ لما حكم به عليك من الطَّاعات، أو انتظر حكم الله إذ وعدك بالنصر عليهم ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة، ﴿وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً﴾ أي : ذا إثمٍ ﴿أَوْ كَفُوراً﴾ أي : لا تطع الكفار.
روى معمر عن قتادة، قال : قال أبو جهل : إن رأيتُ محمداً لأطأنَّ على عنقه، فأنزل الله تعالى :﴿وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً﴾.
وقيل : نزلت في عتبة بن أبي ربيعة والوليد بن المغيرة، وكانا أتيا رسول الله ﷺ يعرضان عليه الأموال والتزويج على أن يترك ذكر النبوة ففيهما نزلت، وعرض عليه عتبة
٥٠
ابنته وكانت من أجمل النساء، وعرض عليه الوليد أن يعطيه من الأموال حتى يرضى، ويترك ما هو عليه، فقرأ عليهم رسول الله ﷺ عشر آيات من أول " حم " السجدة، إلى قوله :﴿فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ [فصلت : ١ - ١٣]، فانصرنا عنه وقال أحدهما : ظننت أنَّ الكعبة ستقع عليَّ.
قوله :﴿أَوْ كَفُوراً﴾.
في " أوْ " هذه أوجه : أحدها : أنها على بابها، وهو قول سيبويه.
قال أبو البقاء : وتفيد في النهي عن الجميع، لأنك إذا قلت في الإباحة : جالس الحسن أو ابن سيرين كان التقدير : جالس أحدهما، فأيهما كلمه كان أحدهما فيكون ممنوعاً منه، فكذلك في الآية، ويؤول المعنى إلى تقدير : ولا تطع منهما آثماً ولا كفوراً.
قال الزمخشري رحمه الله : فإن قلت : معنى " أو " ولا تطع أحدهما، فهلا جيء بالواو لتكون نهياً عن طاعتهما جميعاً ؟ قلت : لو قال : لا تطعهما لجاز أن يطيع أحدهما، وإذا قيل : لا تطع أحدهما علم أن الناهي عن طاعة أحدهما هو عن طاعتهما جميعاً أنهى، كما إذا نهي أن يقول لأبويه :" أفّ " علم أنه منهي عن ضربهما على طريق الأولى.
الثاني : أنها بمعنى " لا " أي : لا تطع من أثم ولا من كفر.
قال مكي :" وهو قول الفراء، وهو بمعنى الإباحة التي ذكرنا ".
الثالث : أنها بمعنى الواو، وقد تقدم أن ذلك قول الكوفيين.
والكفور وإن كان يستلزم الإثم إلا أنه عطف لأحد أمرين : إما أن يكونا شخصين بعينهما كما تقدم فالآثم عتبة، والكفور الوليد.
وإما لما قاله الزمخشري :" فإن قلت : كانوا كلهم كفرةً، فما معنى القسمة في قوله " آثماً او كفوراً " ؟ قلت : معنا لا تطع منهم راكباً لما هو إثم داعياً إليه أو فاعلاً لما هو كفر داعياً لك إليه، لأنهم إمَّا أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر، أو غير إثم ولا كفر، فهي أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث ".
فصل قال ابن الخطيب : قوله تعالى :﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ يدخل فيه ألاَّ تطع فيه آثماً أو كفوراً، فكأن ذكره بعد ذلك تكرار ؟
٥١