أي : ذات إقبالٍ، وذات إدبار.
وقال النَّابغة :[المتقارب] ٩١٣ - وَكَيْفَ نُوَاصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ
خِلاَلَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ
١٩٥
أي : كخلالة أبي مرحب]، وهذا اختيار الفرَّاء، والزَّجَّاج، وقطرب.
وقال أبو عليٍّ : ومثل هذه الآية الكريمة قوله :﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ﴾ [التوبة : ١٩]، ثم قال :﴿كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ [التوبة : ١٩] ؛ ليقع التمثيل بين مصدرين، أو بين فاعلين ؛ إذ لا يقع التمثيل بين مصدرٍ، وفاعلٍ.
الرابع : أن يطلق المصدر على الشَّخص مبالغةً ؛ نحو : رجل عدل.
ويحكى عن المبرِّد :" لو كنت ممَّن يقرأ القرآن، لقرأت " وَلَكِنَّ البَرَّ " بفتح الباء " وإنَّما قال ذلك ؛ لأن " البَرَّ " اسم فاعل، نقول بَرَّ يَبَرُّ، فهو بَارٌّ، فتارة تأتي به على فاعل، وتارة على فعل.
الخامس : أن امصدر وقع موقع اسم الفاعل، نحو : رجل عدلٌ، أي : عادل، كما قد يقع اسم الفاعل موقعه، نحو : أقائماً، وقد قعد الناس ؛ في قولٍ، هذا رأي الكوفيين، والأولى فيه ادِّعاء أنه محذوفٌ من فاعلٍ، وأن أصله : بارٌّ، فجعل " برّاً "، وأصله كـ " سِرٍّ "، و " رَبٌّ " أصله " رابٌّ "، وقد تقدم.
وجعل الفراء " مَنْ آمَنَ " واقعاً موقع الإيمان، فأوقع اسم الشخص على المعنى كعكسه ؛ كأنه قال :" وَلَكِنَّ البِرَّ الإيمانُ باللَّهِ " قال : والعَرَبُ تجعل الاسم خبراً للفعل، وأنشد في ذلك :[الطويل] ٩١٤ - لَعَمْرُكَ مَا الفِتْيَانُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحَى
وَلَكِنَّمَا الفِتْيَانُ كُلُّ فَتًى نَدِي
جعل نبات اللحية خبراً للفتيان، والمعنى : لعمرك ما الفتوَّة أن تنبت اللِّحى.
وقرأ نافعٌ، وابن عامر :" وَلَكِن البِرُّ " هنا وفيما بعد بتخفيف " لَكِنْ " وبرفع " البِرُّ "، والباقون بالتَّشديد، والنَّصب، وهما واضحتان ممَّا في قوله :﴿وَلَـاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ﴾ [البقرة : ١٠٢].
وقرئ :" وَلِكنَّ البَارَّ " بالألف، وهي تقوِّي أنَّ " البِرَّ " بالكسر المراد به اسم الفاعل، لا المصدر.
قال أبو عُبَيْدَةَ :" البِرُ " هاهنا بمعنى البَارِّ، كقوله :﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه : ١٣٢] أي : للمتَّقين، ومنه قوله تعالى :﴿إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً﴾ [الملك : ٣٠] أي : غائراً، وقالت الخنساء :[البسيط]
١٩٦
٩١٥ - وَإِنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارُ
أي : مقبلة ومدبرة والعمل لكل خير هو بر، وقيل : البر : كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة، قال تعالى :﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ [الإنسان : ١٣].
ووحَّد الكتاب لفظاً، والمراد به الجمع ؛ وحسَّن ذلك كونه مصدراً في الأصل، أو أراد به الجنس، أو أراد به القرآن، فإنَّ من آمن به، فقد آمن بكل الكتب، فإنه شاهدٌ لها بالصِّحَّة.
فصل فيما اعتبر الله تعالى في تحقيق البرِّ اعلم أنَّ الله تعالى اعتبر في تحقيق البِرِّ أموراً : أحدها : الإيمانُ بخمسة أشياء : أولهاك الإيمان بالله، ولا يحصل ذلك إلاَّ باعلم بذاته المخصوصة، وبما يجب، ويجوز، ويستحيل عليه، ولا يحصل العلم بهذه الأمور إلاَّ بالعلم بالدلائل الدالَّة عليها، فيدخل فيه العلم بحدوث العالم، والعلم بالأصول التي يتفرَّع عليها حدوث العالم ويدخل فيه العالم.
١٩٧
بوجوده، وقدرته، وبقائه، وكونه عالماً بكلِّ المعلومات قادراً على كلِّ الممكنات.
١٩٨
وثانيها : الإيمان باليوم الآخر، وهذا متفرِّع على الأوَّل ؛ لأنَّا إن لم نعلم قدرته على جميع الممكنات، لا يمكننا أن نعلم صحَّة الحشر والنَّشر.
١٩٩
وثالثها : الإيمان بالملائكة.
٢٠٠
ورابعها : الإيمان بالكتب.
٢٠١
وخامسها : الإيمان بالرسل.
٢٠٢
فإن قيل : لا طريق لنا غلى العلم بوجود الملائكة، ولا إلى العلم بصدق الكتب، إلاَّ بواسطة صدق الرُّسل، فإذا كان قول الرسل كالأصل في معرفة الملائكة والكتب، فلم قدَّم الملائكة والكتب في الذِّكر على الرُّسل ؟ فالجواب : أنَّ الأمر، إن كان كذلك في عقولنا، إلاَّ انَّ الترتيب على العطس ؛ لأنَّ الملك يوجد أوَّلاً، ثم صحل بواسطة تبليغه نزول الكتب إلى الرسل، فالمراعى في هذه
٢٠٣


الصفحة التالية
Icon