جائز أن يكون تطوُّعاً ؛ لأنه قال في آخر الآية الكريمة :﴿وَأُولَـائِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة : ١٧٧]، وقف التقوى عليه، ولو كانه تطوُّعاً، لما وقف التقوى عليه، وإذا ثبت أنَّه واجبٌ، وأنه غير الزكاة، ففيه أقوال : أحدها : أنه عبارة عن دفع الحاجات الضَّروريَّة ؛ مثل : إطعام المضطرِّ ؛ ويدل عليه قوله - عليه الصلاة والسلام - :" لاَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ مَنْ بَاتَ شَبْعَاناً، وجَارُهُ طَاوٍ إلى جَنْبِهِ " ورُوِيَ عن فاطمة بنت قيس :" إنَّ في المال حقّاً سوى الزَّكاة " ثم تلت " وآتى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ".
وحكي عن الشَّعْبِيِّ أنَّه سئل عمَّن له مال، فأدى زكاته، فهل عليه سواه ؟ فقال : نعم، يصل القرابة، ويعطي السائل، ثم تلا هذه الآية الكريمة.
وأيضاً : فلا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضَّرورة، وجب على النَّاس أن يعطوه مقدار دفع الضَّرورة.
فإن قيل : الزَّكاة نسخت الحقوق الماليَّة.
فالجواب : أنَّه - عليه السَّلام - قال :" في المَالِ حٌقُوقٌ سِوَى الزَّكَاةِ " ؛ وقول الرسول أولى، وأجمعت الأمَّة على أنه يجب أن يدفع إلى المضطرِّ ما يدفع به الضَّرورة، وإن سلَّمنا أن الزكاة نسخت كلَّ حقٍّ، فالمراد أنَّها نسخت الحقوق المقدَّرة، أمَّا الذي لا يكون مقدَّراً، فغير منسوخ ؛ بدليل أنه يلزم النفقة على الأقارب، والمماليك.
٢٠٦
فإن قيل : إذا صحَّ هذا التأويل، فما الحكمة في هذا التَّرتيب ؟ ! فالجواب من وجوه : أحدها : أنه تبارك وتعالى قدَّم الأولى فالأولى ؛ لأنَّ الفقير القريب أولى بالصَّدقة من غيره، لأنَّ يجمع فيه بين الصلة، والصَّدقة، ولأن القرابة من أوكد الوجوه ف صرف المال إليه، ولذلك يستحقُّ بها الإرث، ويحجر على ذي المال بسببه في الوصيَّة، حتى لا يتمكَّن من الوصية، إلا في الثُّلث، ولذلك كانت الوصيَّة للأقارب من الواجبات ؛ لقوله تعالى :﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة : ١٨٠].
وإن كانت نسخت عند بعضهم ؛ فلهذه الوجوه، قدَّم ذوي القربى، ثم أتبعه باليتامى ؛ لأنَّ الصغير الفقير الذي لا والد له، ولا كاسب، فهو منقطع الحيلة من كل الوجوه، ثم أتبعهم بالمساكين ؛ لأنَّ الحاجة قد تشتدُّ بهم، ثم ذكر السَّائلين، وفي الرقاب ؛ لأن حاجتهما دون حاجة من تقدَّم.
وثانيها : أن علم المرء بشدَّة حاجة قريبه أقوى، ثم بحاجة الأيتام، ثم بحاجة المساكين ثم على هذا الَّسق.
وثالثها : أن ذا القربى مسكينٌ، وله صفةٌ زائدةٌ تخصُّه ؛ لأن شدَّة حاجته تغمُّ صاحب المال، وتؤذيث قلبه، ودفع الضَّرر عن النَّفس مقدَّم على دفع الضرر عن الغير ؛ فلذلك بدأ الله بذي القربى، ثم باليتامى ؛ لأن الغمَّ الحاصل بسبب عجز الصِّغار عن الطَّعام والشَّراب أشدُّ من الغمٍّ الحاصل بسبب عجز الكبار عن تحصيلهما، ثم المساكين ؛ لأنَّ الغمَّ الحاصل بسببهم أخفُّ من الغم الحاصل بسبب الصَّغار.
وأمَّا ابن السَّبيل، فقد يكون غنيّاً، وقد تشتدُّ حاجته في الوقت، والسَّائل قد يكون غنيّاً، ويظهر شدَّة الحاجة، وأخَّر المكاتب ؛ لأنَّ إزالة الرق ليست في محلِّ الحاجة الشَّديد'.
القول الثاني : أنَّ المراد بإيتاء المال : ما روي أنه - عليه الصلاة والسلام - عند ذكره الإبل، قال :" إنَّ فِيهَا حَقّاً ؛ وهو إطراق فحلها، وإعارة دَلْوها "، وهذا بعيدٌ ؛ لأن الحاجة إلى إطراق الفحل أمر لا يختصُّ به ابن السَّبيل، والسائل والمكاتب.
القول الثالث : أن إيتاء المال إلى هؤلاء كان واجباً، ثم نسخ بالزَّكاة، وهذا أيضاً ضعيفٌ، لأنه تبارك وتعالى جمع في هذه الآية الكريمة بين هذا الإيتاء، وبين الزكاة.
وقال بعضهم : المراد صدقة التطوُّع.
فصل في الوجوه الإعرابية لقوله " ذَوِي " قوله " ذَوَي " فيه وجهان :
٢٠٧