والحُقْبُ - بالضم والسكون - : ثمانون سنة.
وقيل : أكثر من ذلك وأقل، والجمع :" أحْقَاب ".
قال الفراءُ : أصل الحقبة من الترادُف والتتابُع، يقال :" أحْقَبَ " : إذا أردف، ومنه الحقبة، ومنه كل من حمل وزراً فقد احتقب، فعلى هذا معناه : لابثين فيها أحقاباً، أي : دُهوْراً مُترادِفَةً يتبع بعضهم بعضاً.
فصل في تحرير معنى الآية المعنى : ماكثين في النَّار ما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع، فكُلَّما مضى حُقبٌ جاء حُقبٌ، و " الحُقُبُ " - بضمتين - : الدَّهْرُ : والأحقابُ، الدهور، والمعنى : لابثين فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها، فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليها، إذ في الكلام ذكر الآخرة، كما يقال : أيَّامُ الآخرة، أي : أيام بعد أيام إلى غير نهاية، أي : لابثين فيها أزماناً ودهوراً، كُلَّما مضى زمنٌ يعقبهُ زمنٌ، ودهر يعقبه دهر، هكذا أبداً من غير انقطاع، فكأنه
١٠٥
قال : أبداً، وإنَّما كان يدل على التوقيت لو قال : خمسة أحقاب، أو عشرة ونحوه، وذكر الأحقاب ؛ لأن الحقب كان أبعد شيء عندهم، فذكر ما يفهمونه، وهو كناية عن التأبيد، أي : يمكثون فيها أبداً.
وقيل : ذكر الأحقاب دون الأيام ؛ لأن الأحقاب أهول في القلوب، وأدل على الخلود، وهذا الخلودفي حق المشركين، ويمكن حمله على العصاة الذين يخرجونَ من النار بعد العذاب.
وقيل : الأحقاب وقت شربهم الحميم والغسَّاق، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العذاب، ولهذا قال تعالى :﴿لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً﴾ أي : في الأرض لتقدم ذكرها ويكون ﴿لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً﴾ جهنم.
قوله :﴿لاَّ يَذُوقُونَ﴾.
فيه أوجه : أحدها : أنه مستأنف، أخبر عنهم بذلك.
الثاني : أنه حال من الضمير في " لابِثيْنَ " غير ذائقين، فهي حال متداخلة.
الثالث : أنه صفة لـ " أحْقَاب ".
قال مكي : واحتمل الضمير ؛ لأنه فعل فلم يجب إظهاره كأن قد جرى صفة على غيره من هو له، وإنَّما جاز أن يكون نعتاً لـ " أحْقَال " لأجل الضمير العائد على " الأحقاب " في " فيها "، ولو كان في موضع " يَذُوقُونَ " اسم فاعل لكان لا بُدَّ من إظهار الضمير إذا جعلته وصفاً لـ " أحقاب ".
الرابع : أنه تفسير لقوله تعالى :﴿أَحْقَاباً﴾ إذا جعلته منصوباً على الحال بالتأويل المتقدم عن الزمخشري، فإنه قال :" وقوله تعالى :﴿لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً﴾.
تفسير له ".
الخامس : أنه حال أخرى من " للطاغين " كـ " لابثين ".
فصل في معنى هذا البرد قال أبو عبيدة : البَرْدُ : النومُ ؛ قال الشاعر :[الطويل] ٥٠٧٦ - فَلوْ شِئْتُ حَرَّمتُ النِّساءَ سِواكُمُ
وإنْ شِئْتُ لَمْ أطْعَمْ نِعَاجاً ولا بَرْدَا
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ١٠٣
وهو قول مجاهد والسديِّ والكسائيِّ والفضل بن خالدٍ وأبي معاذٍ النحويِّ.
والعرب تقول : منع البَرْدُ البَرْدَ، أذهب النوم.
وقال ابن عباس رضي الله عنه : البرد برد الشراب.
١٠٦
وعنه - أيضاً - البرد : النَِّوم، والشراب : الماء.
قال الزجاج : لا يذوقُونَ فيها بَرْدَ ريحٍ، ولا بَرْدَ ظلٍّ.
فجعل البرد كل شيء له رائحة.
وقال الحسن وعطاء وابن زيد : بَرداً : أي روحاً ورائحة.
قوله :﴿إِلاَّ حَمِيماً﴾.
يجوز أن يكون استثناء متَّصلاً من قوله :" شراباً "، ويجوز أن يكون مُنْقَطِعاً.
قال الزمخشري :" يعني يّذُوقُون فيها برداً، ولا روحاً ينفس عنهم حر النَّار " ولا شراباً " يسكن من عطشهم، ولكن يذوقون فيها حميماً وغسَِّاقاً ".
قال شهاب الدين :" ومكي لمَّا جعله منقطعاً جعل البرد عبارة عن النوم، قال : فإن جعلته النوم كان " إلا حميماً " استثناء ليس من الأول ".
وإنَّما الذي حمل الزمخشري على الانقطاع مع صدق الشراب على الحميم والغسَّاق، وصفة له بقوله :" ولا شراباً يسكن من عطشهم " فبهذا القيد صار الحميمُ ليس من جنس هذا الشراب ؛ وإطلاق البردِ على النوم لغة ذيل، وأنشد البيت المتقدم.
وقول العرب : منع البرد، قيل : وسمي بذلك لأنه يقطع سورة العطش، والذوق على هذين القولين مجاز، أعني : كونه روحاً ينفس عنهم الحر، وكونه النوم مجاز، وأمَّا على قوله من جعله اسماً للشراب الباردِ المستلذّ كما تقدَّم عن ابن عباس رضي الله عنهما وأنشد قول حسان رضي الله عنه :[الكامل] ٥٠٧٧ - يَسْقُون مَنْ ورَدَ البَريصَ عَليْهِمُ
بَرَدى تُصفِّقُ بالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ
قال ابنُ الأثيرِ : البريص : الماء القليل، والبرصُ : الشيء القليل ؛ وقال الاخر :[الطويل] ٥٠٧٨ - أمَانيَّ مِنْ سُعْدى حِسانٌ كأنَّما
سَقتْكَ بِهَا سُعْدَى عَلى ظَمَإٍ بَرْدَا
والذوق حقيقة، إلا أنه يصير فيه تكرار بقوله بعد ذلك " ولا شراباً ".
١٠٧