﴿ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ﴾ أي : يعملُ بالفساد في الأرض.
وقيل : يعمل في نكاية موسى.
وقيل :" أدْبَرَ يَسْعَى " هارباً من الحيَّة.
قال ابن الخطيب : معنى " أدْبَرَ يَسْعَى " أي : أقبل يسعة، كما يقالُ : أقبل يفعل كذا، يعني : إن شاء يفعل، فموضع " أدبر " موضع " أقبل " لئلاَّ يوسف بالإقبَالِ.
قوله :﴿فَحَشَرَ فَنَادَى ﴾ لم يذكر مفعولاهما، إذ المراد : فعل ذلك، أو يكون التقدير : غحشر قومه فناداهم.
وقوله :" فَقَالَ " تفسير للنِّداء.
وقيل : في الكلام تقديم وتأخير، أي : فنادى فحشر ؛ لأنَّ النداء قبل الحشر، ومعنى " حشر "، أي : جمع السَّحرة، وجمع أصحابه ليَمْنَعُوهُ من الحيَّة.
وقيل : جمع جنوده للقتال، والمحاسبة، و " السَّحَرةُ " : المعارضة.
وقيل : أمر منادياً ينادي فنادى في النَّاس بذلك.
وقيل : قام فيهم خطيباً فقال ذلك.
وعن ابن عباس، ومجاهدٍ، والسديِّ، وسعيد بن جبير، ومقاتلٍ : كلمته الأولى ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِي﴾ [القصص : ٣٨] والأخرى " " أنَا ربُّكمُ الأعْلَى ".
قال ابنُ عباس : كان بين الكلمتين أربعون سنة، والمعنى : أمهله في الأولى، ثم أخذه في الآخرة فعذبه بكلمتيه.
قال ابن الخطيب : واعلم أنَّا بينَّا في سورة " طه " أنه لا يجوز أن يعتقد الإنسانُ في نفسه كونه خالقاً للسماوات والأرض والجبال والنبات والحيوان، فإنَّ العلمَ بفسادِ ذلك ضروريٌّ، فمن تشكك فيه كان مجنوناً، ولو كان مجنوناً لما جاز من الله بعثة الرسل
١٣٩
إليه، بل الرَّجل كان دهرياً منكراً للصَّانع والحشر والنشر، وكان يقول : ليس لأحدٍ أمرٌ ولا نهيٌ إلاَّ لي " فأنَا ربُّكم "، بمعنى مربيكم والمُحسنُ إليكم، وليس للعالم إله حتى يكون له عليكم أمرٌ، أو نهيٌ، أو يبعث إليكم رسولاً.
قال القاضي : وقد كان الأليق به ظهور خزيه عند انقلاب العصا حية ألا يقول هذا القول ؛ لأن عند ظهور الدلالة والمعجزة، كيف يليق أن يقول :" أنَا ربُّكم الأعْلَى " فدلت هذه الآية أنَّه في ذلك الوقت صار كالمعتوه الذي لا يدري ما يقول.
قوله تعالى :﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُوْلَى ﴾ يجوز أن يكون مصدر الأخذِ، والتجوز إما في الفعل، أي : نكل بالأخذِ نكال الآخرة، وإما في المصدر، أي : أخذه أخذ نكالٍ، ويجوز أن يكون مفعولاً له، أي : لأجلِ نكالهِ، ويضعف جعله حالاً لتعريفه، وتأويله كتأويل جهدك وطافتك، غير مقيس.
ويجوز أن يكون مصدراً مؤكِّداً لمضمون الجملة المتقدِّمة، أي : نكل الله [به] نكال الآخرة.
قاله الزَّمخشريُّ، وجعله كوعد الله، وصبغة الله.
وقال القرطبيُّ : وقيل : نُصِبَ بنَزْعِ حرف الصِّفة، أي : فأخذه الله بنكال الآخرة، فلمَّا نُزعَ الخافضُ نُصِبَ.
والنكال : اسم لما جعل نكالاً للغير، أي : عقوبة له حتى يعتبر، يقال : نَكَل فلانٌ بفلانِ، إذا ألحقهُ عُقوبة، والكلمة من الامتناع، ومنه النُّكُول عن اليمين، والنكل : القيد وقد مضى في سورة " المزمل "، والنكال : بمنزلة التنكيل، كالسلام بمعنى التسليم.
والآخرة والأولى : إمَّا الدَّاران وإمَّا الكلمتان، والاخرة قوله :" أنَا ربُّكمُ الأعْلَى "، والأولى تكذيبه بموسى عليه الصلاة والسلام.
١٤٠
قال الفقال : وهذا كأنَّه هو الأظهرُ ؛ لأنَّه - تعالى - قال :﴿فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى ﴾ فذكر القصتين، ثم قال :﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُوْلَى ﴾.
فظهر أنَّ المراد : أنَّه عاقبه على هذين الأمرين.
ثمَّ إنَّه - تعالى - ختم هذه القصة بقوله :﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى ﴾، إنَّ فيما قصصنا عليك اعتباراً وعظةً لمن يخاف.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ١٣٥


الصفحة التالية
Icon