لطول الكلام بالمدح، والعرب تنصب الكلام على المدح والذَّمِّ، إذا طال الكلام في الشَّيء الواحد، وقالوا فيمن قرأ ﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ [المسد : ٣] بنصب " حَمَّالَةَ " : إنه نصب على الذَّمِّ.
فإن قيل : لم لا يجوز على هذين الوجهين : أن يكون معطوفاً على ذوي القربى، أي : وآتى المال الصابرين : قيل : لئلاَّ يلزم من ذلك محذورٌ، وهو الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه الذي هو في حكم الصِّلة بأجنبيٍّ، وهو " المُوفُونَ " فإن قيل : أليس جاز الفصل بين المبتدأ والخبر بالجملة ؛ كقوله :﴿وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾ [الكهف : ٣٠] ثم قال " أُوْلَئِكَ " ففصل بين المبتدأ والخبر.
قلنا : لا يلزم من جواز الفصل بين المبتدأ والخبر جوازه بين الموصول والصِّلة.
التأكيد بالضمير المرفوع المنفصل، لأنَّ طول الكلام أغنى عن ذلك ؛ وعلى هذا الوجه : يجوز في " الصَّابِرِينَ " وجهان : أحدهما : النَّصيب ؛ بإضمار فعْلٍ ؛ لما تقدَّم، قال الخليل : المدح والذمُّ ينصبان على معنى " أَعْني الظريف " وأنكر الفراء ذلك لوجهين.
أحدهما : أنَّ " أَعْنِي " إنما يقع تفسيراً للمجهول، والمدح يأتي بعد المعروف " أعني أخاك "، وهذا مما لم تقله العرب أصلاً.
والثاني : العطف على ذَوِي القُرْبَى، ولا يمنع من ذلك ما تقدَّم من الفصل بالأجنبيِّ، لأن " المُفُونَ " على هذا الوجه داخلٌ في الصِّلة، فهو بعضها لا أجنبيٌّ منها.
قوله " إذَا عَاهَدُوا " إذا منصوبٌ بـ " المُوفُونَ "، أي : الموفون وقت العهد، من غير تأخير الوفاء عن وقته، وقرأ الجحدريُّ :" بِعُهُودِهِمْ ".
فصل في معنى قوله " بِعَهْدِهِمْ " في هذا العهد قولان : أحدهما : هو ما أخذه الله على عباده على ألسنة رسله من الإيمان، والقيام بحدوده، والعمل بطاعته ؛ لما أخبر الله تبارك وتعالى عن أهل الكتاب : أنَّهم نقضوا العهود والمواثيق، فجحدوا أنبياءه، وقتلوهم، وكذَّبوا بكتابه.
واعترض القاضي على هذا القول، وقال : إنَّ قوله تبارك وتعالى :" المُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ " صريحٌ في إضافة العهد
٢١٠
إليهم، ثم إنه تعالى أكَّد ذلك بقوله :" إذَا عَاهَدُوا "، فلا وجه لحمله على ما سيكون لزومه ابتداءً من قبله تعالى.
وأجيب : بأنه تعالى، وإن ألزمهم هذه الأشياءن لكنهم من عند أنفسهم قبلوا ذلك الإلزام، والتزموه، فصحَّ إضافة العهد إليهم من هذا الوجه.
القول الثاني : أن يحمل ذلك على الأمور التي يلتزمها المكلَّف ابتداءً من عند نفسه.
واعلم أنّ هذا العهد إمَّا أن يكون بين العبد وبين الله تعالى ؛ كاليمين والنَّذر، وما أشبهه، أو بينه وين رسول الله ؛ كالبيعة ؛ من القيام بالنُّصرة والمجاهدة، والمظاهرة، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، او بينه وبين النَّاس، وقد يكون ذلك واجباً، مثل : ما يلتزمه في عقود المعاوضات من التَّسليم والتَّسلُّم، والشرائط التي يلتزمها في السَّلم، والرَّهن وغيره،
٢١١
وقد يكون مندوباً ؛ مثل : الوفاء بالعهد في بذل الماء، والإخلاص في المناصرة.
فقوله ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ﴾ يتناول كل هذه الأقسام ؛ فلا تقتصر الآية على بعضها، وهذا هو الذي عبر عنه المفسِّرون، فقالوا : هم الذين إذا وعدوا، أنجزوا، وإذا حلفوا ونذروا، وفَّوا، وإذا قالوا، صدقوا، وإذا ائتمنوا، أدَّوا.
فصل في بلاغة قوله " والمُوفُونَ " دون " وأَوْفَى " قال الرَّاغب : وإنَّما لم يقل " وأوْفَى " ؛ كما قال " وأَقَامَ " ؛ لأمرين : أحدهما : اللفظ، وهو أن الصِّلة، متى طالت، كان الأحسن أن يعطف على الموصول، دون الصلة ؛ لئلاَّ يطول ويقبح.
والثاني : أنَّه ذكر في الأول ما هو داخل في حيِّز الشريعة، وغير مستفاد إلا منها والحكمة العقليَّة تقتضي العدالة دون الجور، ولما ذكر وفاء العهد، وهو مما تقضي به العقول المجرَّدة، صارعطفه على الأوَّل أحسن، ولما كان الصَّبر من وجه مبدأ الفضائل، ومن وجه : جامعاً للفضائل ؛ إذ لا فضيلة إلا وللصَّبر فيها أثر بليغ - غيَّر إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد ؛ وهذا كلام حسن.
وحكى الزَّمخشريُّ قراءة " والمُوفِينَ "، " والصَّابِرِينَ " وقرأ الحسن، والأعمش، ويعقوب :" وَالمُوفُونَ "، " والصَّابِرُونَ ".
٢١٢


الصفحة التالية
Icon