سورة عبس
وتسمى سورة السفرة مكية، وهي اثنان وأربعون آية، وثلاثون كلمة، وخمسمائة وثلاثون حرفا.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ١٥١
قوله تعالى :﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى ﴾ أي : كَلحَ بوجههِ، يقال : عبَسَ وبَسَر وتولى، أي : أعرضَ بوجهه.
قوله :﴿أَن جَآءَهُ﴾.
فيه وجهان : أحدهما : أنَّه مفعولٌ من أجله، وناصبه : إمَّا " تولَّى " وهو قول البصريين، وإمَّا " عَبَسَ " وهو قول الكوفيين، والمختار مذهب البصريين لعدم الإضمار في الثاني، وتقدم تحقيق هذا في مسائل النزاع والتقدير : لأن جَاءهُ الأعْمَى فعل ذلكَ.
قال القرطبيُّ : إن من قرأ بالمدِّ على الاستفهام، فـ " أنْ " متعلقة بمحذوف دلَّ عليه ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى ﴾ والتقدير : أأن جاءهُ اعرض عنهُ وتولى ؟ فيوقف على هذه القراءة على " تولَّى "، ولا يوقف عليه على قراءة العامة.
فصل في سبب نزول الآية قال المفسرون : أتى رسول الله ﷺ ابن أم مكتومٍ، واسمُ مكتُومٍ عاتكةُ بنتُ عامرٍ بن مخزومٍ، وكان عند النبي ﷺ صناديدُ قريش : عُتْبَةُ وشيبةُ ابنا رَبِيعةَ، وأبُو
١٥٢
جَهْلٍ بْنُ هشام، والعبَّاسُ بنُ عبدِ المُطلبِ، وأميَّةُ بن خلفٍ، والوليدُ بنُ المُغيرةِ، يدعوهم إلى الإسلام رجاءَ أن يسلم بإسلامهم غيرُهم، فقال للنبي ﷺ : عَلِّمني مما علمك الله، وكرَّر ذلك عليه، فكره قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه، فنزلت هذه الآية.
قال ابن العربي : أمَّا قول المفسرين : إنه الوليد بن المغيرة، أو أمية بن خلف والعباس، فهذا كله باطلٌ وجهلٌ ؛ لأن أمية والوليد كانا بـ " مكة " وابن أم مكتوم كان بـ " المدينة " ما حضر معهما، ولا حضرا معه، وماتا كافرين، أحدهما : قبل الهجرة، والآخر في " بدر "، ولم يقصد أمية " المدينة " قط، ولا حضر معه مفرداً، ولا مع أحدٍ، وإنَّما أقبل ابن أم مكتوم والنبي ﷺ مشتغل بمن حضره من وجوه قريش يدعوهم إلى الإسلام، وقد طمع في إِسلامهم، وكان في إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى، فقال : يا رسول الله علمني مما علمك الله وجعل يناديه ويكثر النداء، ولا يدري أنه مشتغل بغيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله ﷺ لقطعه كلامه، وقال في نفسه : يقول هؤلاء إنَّما اتْباعُه العُمْيَان والسَّفلة والعبيد، فعبس وأعرضَ عنه، فنزلت الآية.
" قال الثوري : فكان النبيُّ ﷺ بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم بسط له رداءهُ، ويقول :" مَرْحَباً بمَنْ عَاتَبنِي فِيهِ ربِّي "، ويقول :" هَلْ مِنْ حَاجَةٍ " ؟ واستخلفهُ على " المدينة " مرتين في غزوتين غزاهما ".
قال أنسٌ رضي الله عنه : فرأيته يوم " القادسيَّة " راكباً وعليه دِرْع، ومعه رايةٌ سوداءُ.
فصل في معاتبة الله تعالى رسوله قال ابن الخطيب : ما فعله ابن أم مكتوم كان يستحق التأديب والزَّجْر، فكيف عاتب الله - تعالى - رسول على تأديبه ابن أم مكتوم ؟.
وإنما قلنا : إنه كان يستحق التأديب ؛ لأنه وإن كان أعمى لا يرى القوم، لكنه سمع
١٥٣
مخاطبة الرسول ﷺ لأولئك الكفار، وكان بسماعه يعرف شدة اهتمام النبي ﷺ بشأنهم، فكان إقدامه على قطع كلام النبي ﷺ معصية عظيمة.
وأيضاً : فإنَّ الأهم يقدِّم على المُهِمّ، وكان قد أسلم، وتعلَّم ما يحتاج إليه من أمر دينه، أما أولئك الكفَّار، فلم يكونوا أسلموا بعد، وكان إسلامهم سبباً لإسلام جمع عظيم، فكان كلام ابن مكتوم كالسبب في قطع ذلك الخير العظيم لغرض قليل، وذلك محرم.
وأيضاً : فإنَّ الله - تعالى - ذمّ الذين يناجونه من وراء الحجرات بمجود ندائهم، فهذا النداء الذي هو كالصَّارف للكفار عن [قبول] الإيمانِ أوْلَى أن يكون ذنباً، فثبت أن الذي فعله ابن أمِّ مكتوم كان ذنباً ومعصية.
وأيضاً : فمع هذا الاعتناء بابن أم مكتوم، فكيف لقب بالأعمى ؟.
وأيضاً : فالنبيُّ ﷺ يؤدَّب أصحابه بما يراه مصلحة، والتَّعبيسُ من ذلك القبيل، ومع الإذن فيه، كيف يعاتب عليه ؟.
والجواب عن الأول : أنَّ ما فعله ابن أم مكتوم كان من سُوءِ الأدب لو كان عاملاً بأنَّ النبي ﷺ مشغولٌ بغيره، وأنَّه يرجو إسلامهم، ولكن الله عاتبه حتى لا تنكسر قلوبُ أهْلِ الصُّفَّةِ، أو ليعلم أنَّ المؤمن الفقير خيرٌ من الغنى، وكان النظر إلى المؤمن اولى، وإن كان فقيراً أصلحُ وأوْلَى من الإقبالِ على الأغنياء طمعاً في إيمانهم، وإن كان ذلك أيضاً طمعاً في المصلحة، وعلى هذا يخرج قوله تعالى :﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ﴾ [الأنفال : ٦٧] الآية.
وقيل : إنَّما قصد النبي ﷺ تأليف الرجل ثقة بما كان في قلب ابن أم مكتوم من الإيمان، كما قال النبي ﷺ :" إنِّي لأعْطِي الرَّجُل وغَيرهُ أحَبُّ إليَّ مِنْهُ مخَافَة أن يكُبَّهُ اللهُ على وجْهِهِ ".
وقال ابن زيدِ : إنَّما عبس النبي ﷺ لابن أم مكتوم، وأعرض عنه ؛ لأنَّه اشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه، فدفعه ابن أم مكتوم، وأبي إلا أن يكلم النبي ﷺ حتى يعلمهن فكان في هذا نوع جفاءٍ منه، ومع هذا أنزل الله تعالى في حقه :﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى ﴾، بلفظ الإخبار عن الغائب تعظيماً له، ولم يقل : عَبْسَتَ وتولَّيت.
ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيساً له، فقال :" ومَا يُدْرِيكَ " أي : يعلمك " لَعلَّهُ " ابنُ أم مكتوم " يَزَّكَّى " بما استدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين، وإنَّما ذكره بلفظ العمى ليس للتحقير، بل كأنه قيل : إنه بسبب عماه يستحق مزيد الرفق والرأفة، فكيف يليق بك يا محمد، أن
١٥٤