وقرأ ابن جبير، والأعمش :" ما أغَوَّكَ "، فاحتمل أن تكون استفهامية، وأن تكون تعجبية، ومعنى " أغرّه " : أدخله في الغرَّة، أو جعله غارًّا.
فصل في مناسبة الآية لما قبلها لما أخبر في تلك الآية أولى عن وقوع الحشر والنشر، ذكر هاهنا ما يدل عقلاً ونقلاً على إمكانه، أو على وقوعه، وذلك من وجهين الأول : أن الإله الكريم الذي لا يجوز من كرمه أن يقطع مواد نعمه عن المذنبين، كيف يجوز في كرمه ألا ينتقم من الظالم ؟.
الثاني : أن القادر على خلق هذه البنية الإنسانية، ثم سوَّاها، وعدلها، إمَّا أن يقال : إنه - تعالى - خلقها لا لحكمةٍ، وذلك عبث، وهو على الله تعالى محال ؛ لأنه - تعالى - منزَّهٌ عن العبث، أو خلقها لحكمةٍ، فتلك الحكمة أن تكون عائدة على الله تعالى، وذلك باطل ؛ لأنه منزَّهٌ عن الاستكمال والانتفاع، فتعين أن تكون الحكمة عائدة إلى العبد، وتلك الحكمة أن تظهر في الدنيا، فذلك باطل ؛ لأن الدنيا دار بلاء وامتحان لا دار انتفاع وجزاء، فثبت أن تلك الحكمة إنما تظهر في دار الجزاء، فثبت أن الاعتراف بوجود الإله الكريم الذي يقدر على الخلق، والتسوية، والتعديل يوجب على العاقل أن يقطع بأنه تعالى يبعث الأموات ويحشرهم.

فصل في نزول الآية هذا [خطاب] لمنكري البعث.


روى عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنها نزلت في الوليد بن المغيرة.
وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في الأشرم بن شريقٍ، وذلك أنَّه ضرب النبي ﷺ ولم يعاقبه الله تعالى، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.
وقيل : يتناول جميع العصاة ؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومعنى " ما غرَّك " : ما خدعك وسوَّل لك الباطل حتى تركت الوجبات، وأثنيت بالمحرمات.
والمعنى : ما الذي أمَّنك من عقابه، هذا إذا حملنا الإنسان على جميع العصاة، فإن حملناه على الكافر، فالمعنى : ما الذي دعاك إلى الكفر، وإنكار الحشر والنشر.
١٩٦
فإن قيل : كونه كريماً يقتضي ألا يغتر الإنسان بكرمه ؛ لأنه جواد مطلق، لأنه جواد مطلق، والجواد الكريم يستوي عنده طاعة المطيع، وعصيان المذنب، وهذا لا يوجب الاغترار وروي عن عليّ - رضي الله عنه - أنَّه دعا غلامه مرات، فلم يجبه، فنظر فإذ هو بالباب، فقال له : لم لا تجبني ؟ فقال : لثقتي بحلمك، وأمني من عقوبتك، فاستحسن جوابه وأعتقه.
وقالوا - أيضاً - من كرم الرجل سوء أدب غلمانه، وإذا ثبت أن كرمه يقتضي الاغترار به فكيف جعله - هاهنا - مانعاً من الاغترار ؟.
فالجواب من وجوه : الأول : أن المعنى لما كنت ترى حلم الله - تعالى - عن خلقه ظننت أن ذلك لا حساب، ولا دار إلا هذه الدار، فما الذي دعاك إلى الاغترار وجرَّأك على إنكار الحشر، والنشر، فإنَّ ربك كريم، فهو من كرمه - تعالى - لا يعاجل بالعقوبة بسطاً في مدة التوبة، وتأخيراً للجزاء، وذلك لا يقتضي الاغترار.
الثاني : أنَّ كرمه تعالى لمَّا بلغ إلى حيث لا يمنع العاصي من أن يطيعه، فبأن ينتقم للمظلوم من الظالم كان أولى، فإذا كان كونه كريماً يقتضي الخوف الشديد من هذا الاعتبار، وترك الجزاء والاغترار.
الثالث : أنَّ كثرة الكرم توجب الجد والاجتهاد في الخدمة، والاستحياء من الاغترار.
الرابع : قال بعضهم : إنما قال :" بربِّكَ الكَريمِ " ليكون جواباً عن ذلك السؤال حتى يقول : غوني كرمُك، فلولا كرمك لما فعلت ؛ لأنك لو رأيت فسترت، وقدرت فأمهلت.
وهذا الجواب إنما يصح إذا كان المراد بقوله تعالى :﴿ يا أيها الإِنسَانُ﴾ ليس هو " الكافر ".
فصل في غرور ابن آدم قال قتادةُ - رضي الله عنه - : سبب غرور ابن آدم تسويل الشيطان وقال مقاتل : غرَّه عفو الله حين لم يعاقبه أوَّل مرة.
وقال السديُّ : غرَّه الله.
وقال ابن مسعودٍ : ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة، فيقول تعالى : ما
١٩٧


الصفحة التالية
Icon