قوله تعالى :﴿كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ﴾.
العامة : على " تكذبون " خطاباً، والحسنُ وأبو جعفر وشيبة : بياء الغيبة.
قال ابن الخطيب : لما بين بالدلائل العقلية صحة القول بالبعث، والنشور على الجملة فرع عليها شرح تفاصيل الأحوال المتعلقة بذلك، وهي أنواع : الأول : أنه - تعالى - زجرهم عن ذلك الاغترار بقوله " كلا "، و " بل " : حرف وضع في اللغة لنفي شيء قد تقدَّم تحقيق غيره، فلا جرم ذكروا في تفسير " كلاًّ " وجوهاً : الأول : قال القاضي : معناه أنكم لا تستقيمون على توجيه نعمي عليكم، وإرشادي لكم، بل تكذبون بيوم الدين.
الثاني :" كَلاَّ " ردعٌ، أي : ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله تعالى، كأنه قال : وإنهم لا يتعدون عن ذلك، بل يكذِّبون بالدين.
الثالث : قال القفال : أي : ليس الأمر كما تقولون من أنه لا بعث، ولا نشور ؛ لأن ذلك يوجب أن الله - تعالى - خلق الخلق عبثاًـ وحاشاه من ذلك، ثم كأنه قال : إنهم لا ينتفعون بهذا البيان، بل يكذبون بالدين.
وقل الفراء : ليس كما غررت به، والمراد بالدين : الجزاء على الدين والإسلام.
وقيل : المراد من الدين : الحساب، أي : تكذِّبون بيوم الحساب.
النوع الثاني : قوله ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ﴾ : يجوز أن تكون الجملة حالاً من فاعل " تكذِّبون "، والحالة هذه، ويجوز أن تكون مستأنفة أخبرهم بذلك لينزجروا والمراد بالحافظين : الرُّقباءُ من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم.
" كراماً " على الله " كاتبين " يكتبون أقوالكم وأعمالكم.
قال ابنُ الخطيب : والمعنى : التعجب من حالهم، كأنَّه - تعالى - قال : إنكم
٢٠٠
تكذِّبون بيوم الدين وهو يوم الحساب والجزاء، وملائكة الله - تعالى٠ موكَّلون بكم، يكتبون أعمالكم حتى تحاسبوا بها يوم القيامة، ونظيره : قوله تعالى :﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق : ١٧، ١٨] وقوله تعالى :﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً﴾ [الأنعام : ٦١].
فصل في الرد على من طعن في حضور الكرام الكاتبين قال ابن الخطيب : من الناس من طعن في حضور الكرام الكاتبين من وجوه : الأول : لو كان الحفظة، وصحفهم وأقلامهم معنا، ونحن لا نراهم لجاز أن يكون بحضرتنا جبال، وأشخاص لا نراهم، وذلك دخول في الجهالات.
والثاني : هذه الكتابة، والضبط إن كان لا لفائدةٍ فهو عبثٌ، وهو غير جائزٍ على الله تعالى، وإن كان لفائدةٍ، فلا بد وأن تكون للعبد ؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - متعالٍ عن النفع والضر، وعن تطرق النسيان إليه، وغاية ذلك أنَّه حُجَّة على الناس وتشديد عليهم لإقامة الحُجَّة، ولكن هذا ضعيف ؛ لأنَّ من علم أنَّ الله تعالى لا يجور، ولا يظلم، لا يحتاج في حقه إلى إثبات هذه الحجة، والذي لا يعلم لا ينتفع بهذه الحجة، لاحتمال أنَّه تعالى أمرهم بذلك ظلماً.
الثالث : أنَّ أفعال القلوب غير مرئية، فهي من باب المغيبات، والله - تعالى - مختص بعلم الغيب، فلا تكتبوها، والآية تقتضي ذلك.
والجواب عن الأول : أنَّ البنية عندنا ليست شرطاً في قبول الحياة ؛ ولأن عند سلامة الأعضاء، وحصول جميع الشرائط لا يجب الإدراك، فيجوز على الأوَّل : أن يكونوا أجراماً لطيفة، تتمزق، وتبقى حياتها ذلك، وعلى الثاني : يجوز أن يكونوا أجراماً كثيفة، ونحن لا نراهم.
وعن الثاني : أن الله - تعالى - أجرى أموره على عباده على ما يتعارفونه في الدنيا فيما بينهم ؛ لأن ذلك أبلغ في تقرير المعنى عندهم في إخراج كتاب، وشهود في إلزام الحجة، كما يشهد العدول عند الحاكم على القضاة.
وعن الثالث : أن ذلك مخصوص بأفعال الجوارح، فهو عام مخصوص، وفي مدح الحفظة، ووصفهم بهذه الصفات تعظيم لأمر الجزاء، وأنَّه من جلائل الأمور.
فصل في عموم الخطاب هذا الخطاب وإن كان خطاب مشافهة إلاَّ أنَّ الأمَّة أجمعت على عموم هذا الحكم في حقِّ المكلَّفين.
وقوله تعالى :﴿لَحَافِظِينَ﴾ : جمع يحتملُ أن يكونوا حافظين لجميع بني آدم، من غير أن
٢٠١


الصفحة التالية
Icon