قوله تعالى :﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾.
 قيل : إنَّه متصل بقوله تعالى :﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ لمن كذَّب بأخبار الله تعالى.
 وقيل : إنَّ قوله :" مرقوم " معناه : مرقم أي : يدل على الشَّقاوة يوم القيامة،  ثم قال :﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ في ذلك اليوم من ذلك الكتاب.
 ثم إنه - تعالى - أخبر عن صفة من يكذِّب بيوم الدين،  فقال تعالى :﴿وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾،  فقوله تعالى :﴿الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ﴾ يجوز فيه الإتباع نعتاً وبدلاً وبياناً،  واقطع رفعاً ونصباً.
 واعلم أنه - تعالى - وصف المكذب بيوم الدين بثلاث صفاتٍ : أولها : كونه معتدياً،  والاعتداء هو التجاوز عن المنهج الحقِّ.
 وثانيها : الأثيم وهو المبالغة في ارتكاب الإثم والمعاصي.
 وثالثها :﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾ والمراد : الذين ينكرون النبوة،  والمراد بالأساطير : قيل : أكاذيب الأولين.
 وقيل : أخبار الأولين.
 قوله :﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ﴾.
 العامة على الخبر.
٢١٣
والحسن :" أئِذَا ؟ " على الاستفهام الإنكاري.
 والعامَّة :" تتلى " بتاءين من فوق.
 وأبو حيوة وابن مقسم : بالياء من تحت ؛ لأن التأنيث مجازي.
 فصل في المراد بالمكذب في الآية قال الكلبيُّ : المراد بالمكذِّب هنا : هو الوليدُ بن المغيرةِ - لعنه الله - لقوله تعالى :﴿وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ﴾ [القلم : ١٠] إلى قوله :﴿مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾ [القلم : ١٢] وقوله :﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾ [القلم : ١٥].
 فقيل : هو الوليد بن المغيرة.
 وقيل : هو النَّضر بنُ الحارث.
 وقيل : عام في كل موصوف بهذه الصفة.
 قوله :﴿كَلاَّ﴾.
 ردعٌ وزجرٌ،  أي : ليس هو أساطير الأولين.
 وقال الحسن : معناها " حقًّا " ران على قلوبهم.
 وقال مقاتلٌ : معناه : لا يؤمنون،  ثم استأنف :﴿بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ قد تقدم وقف حفص على لم " بل " في سورة الكهف ".
 والرَّان : الغشاوة على القلب كالصَّدأ على الشيء الصقيل من سيف،  ومرآة،  ونحوهما.
 قال الشاعر :[الطويل] ٥١٢٩ - وكَمْ رَانَ من ذَنْبٍ على قَلْبِ فَاجِرٍ
فَتَابَ منَ الذَّنْبِ الذي رَانَ وانْجَلَى
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢١٣
وأصل الرَّيْنِ : الغلبة،  ومنه رانت الخمر على عقل شاربها.
 وقال الزمخشري :" يقال ران عليه الذنب،  وغان عليه،  رَيْناً،  وغَيْناً،  والغَيْنُ : الغَيْمُ ".
 والغين أيضاً : شجر متلف،  الواحدة غَيْنَاء،  أي : خضراء كثيرة الورق ملتفة الأغصان.
 ويقال : رَانَ رَيْناً ورَيَناً،  فجاء مصدره مفتوح العين وساكنها.
 وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وأبو بكر والفضل :" رَانَ " بالإمالة ؛ لأن فاء الفعل
٢١٤
راء،  وعينه ألف منقلبة عن ياء،  فحسنت الإمالة،  ومن فتح فعلى الأصل مثل : كَالَ وبَاعَ.
 فصل في المراد بالرَّين ولإقفال والطبع قال أبُو معاذ النحويُّ : الرَّيْنُ،  والإقفال :[أن يسود القلب من الذنوب وهو] أشدّ من الطبع،  وهو أن يقفلُ على القلب،  قال تعالى :﴿أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ﴾ [محمد : ٢٤].
 قال الزجاجُ :" رَانَ على فُلوبِهمْ " بمعنى غَطَّى على قُلوبِهم.
 وقال الحسن ومجاهد : هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب،  ويغشى،  فيموت القلب.
 قال رسول الله ﷺ :" إيَّاكُمْ والمُحقراتِ مِنَ الذنُوبِ،  فإنَّ الذنْبَ على الذَّنْبِ يُوقِدُ على صَاحبهِ [جحيماً] ضخمة ".
 وقال ﷺ :" إنَّ المُؤْمِنَ إذَا أذْنَبَ كَانتْ نُكْتةٌ سَودَاء في قَلْبهِ،  فإنْ تَابَ ونَزعَ واسْتَغفرَ صُقِلَ قَلْبهُ مِنْهَا،  فإذَا زَادَ زَادتْ حتَّى تَعلُو قَلْبهُ،  فَذلِكُمُ الرَّانُ الَّذي ذَكَرَ اللهُ - تعَالَى - في كِتَابِهِ :﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ ".
 قوله :﴿مَّا كَانُواْ﴾ هو الفاعل،  و " ما " : يحتمل أن تكون مصدرية،  وأن تكون بمعنى :" الذي " والعائد محذوف،  وأمليت ألف " رَانَ "،  وفخمت،  فأمالها الأخوان وأبو بكرٍ وفخَّمها الباقُون،  وأدغمت لام " بل " في الراء،  وأظهرتْ.
 قوله تعالى " ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ﴾.
 قال الزمخشريُّ :" كلاَّ " ردع عن الكسب الرَّائن على قلوبهم.
 وقال القفالُ : إنَّ الله - تعالى - حكى في سائر السور عن هذا المعتدي الأثيم،  أنه كان يقول : إن كانت الآخرة حقًّا،  فإن الله - تعالى - يعطيه مالاً وولداً،  ثم كذَّبه الله - تعالى - بقوله :﴿أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـانِ عَهْداً﴾ [مريم : ٧٨].
٢١٥