والباقون : بضمها على خطاب الجمع.
فالقراءة الأولى : رُوعي فيها إمَّا خطاب الإنسان المتقدم ذكره في قوله تعالى :﴿ يا أيها الإِنسَانُ﴾ [الانشقاق : ٦]، وإما خطاب غيره.
فقيل : خطابٌ للرسول - عليه الصلاة والسلام - أي : لتركبن يا محمد مع الكفار وجهادهم، أو لتبدلن أنصاراً مسلمين، من قولهم : النَّاس طبقات ولتركبن سماء [بعد سماء]، ودرجة بعد درجة، ورتبة بعد رتبة في القرب من الله تعالى.
وقيل : التاء للتأنيث، والفعل مسندٌ لضمير السماء.
قال ابن مسعود : لتركبن السماء حالاً بعد حالٍ تكون كالمهل وكالدخان، وتنفطر وتنشق.
والقراءة الثانية : رُوي فيها معنى الإنسان ؛ إذ المراد به : الجنس، أي : لتركبنَّ أيُّها الإنسان حالاً بعد حال من كونه نطفة، ثم مضغة، ثم حياً، ثم ميتاً وغنياً وفقيراً.
واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قال : لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبي ﷺ لما ذكره قبل هذه الآية فيمن يؤتى كتابه بيمينه، ومن يؤتى كتابه وراء ظهره، وقوله بعد ذلك " فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ " أي : لتركبن حالاً بعد حال من شدائد يوم القيامة، أو لتركبن سُنَّة من كان قبلكم في التكذيب، واختلاف على الأنبياء.
وقال مقاتلٌ : يعني الموت ثم الحياة.
وعن ابن عباسٍ : يعني : الشدائد والأهوال والموت، ثم البعث، ثم العرض.
وقال عكرمة : رضيع، ثم فطيم [ثم غلام]، ثم شابُّ، ثم شيخ.
قال ابن الخطيب : ويصلح أن يكون هذا خطاباً للمسلمين بتعريف نقل أحوالهم
٢٣٨
بنصرهم، ومصيرهم إلى الظفر بعدوهم بعد الشدة التي تلقونها منهم كما قال تعالى :﴿لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران : ١٨٦].
وقرأ عمر - رضي الله عنه - :" ليركبُنَّ " بياء وضم الباء على الإخبار عن الكفار : وقرأ عمر - أيضاً - وابن عباس - رضي الله عنهما : بالغيبة، وفتح الباء، أي : ليركبنَّ الإنسان.
وقيل : ليركبنَّ القمر أحوالاً من إسرارٍ والاستهلالِ.
وقرأ عبد الله وابنٌ عباسٍ :" لتركبُنَ " بكسر حرف المضارعة، وقد تقدم في " الفاتحة ".
وقرأ بعضهم : بفتح المضارعة وكسر الباء، على إسناد الفعل للنفس، أي : لتركبن يا نفس.
قوله :" طبقاً " : مفعول به أو حال.
والطبق قال الزمخشريُّ : الطَّبق : ما طابق غيره، يقال : ما هذا بطبق كذا : أي : لا يطابقه، ومنه قيل للغطاء : الطَّبقُ، وأطباقُ الثَّرى منه، ثم قال للحال المُطابقَة لغيرها طبق، ومنه قوله - عز وجل - :﴿طَبَقاً عَن طَبقٍ﴾ أي : حالاً بعد حال، كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول، ويجوز أن يكون جمع طبقة، وهي المرتبة، من قولهم : هو على طبقاتٍ، ومنه طبقات الظهر لفقاره، الواحدة : طبقة على معنى : لتركبن أحوالً بعد أحوال، هي طبقات في الشدة، بعضها أرفع من بعض وهي الموت، وما بعده من مواطن القيامة انتهى.
وقيل : المعنى : لتركبن هذه الأحوال أمَّة بعد أمَّة ؛ ومنه قول العباس فيه ﷺ :[المنسرح] ٥١٤٧ - تُنقَلُ مِنَ صالبِ إلى رحِمِ
وإذَا مَضَى عالمٌ بَدَا طَبَقُ
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٣٤
فعل هذا التفسير، يكون " طبقاً " حالاً، كأنه قيل : أمة بعد أمة.
وأما قول الأقرع :[البسيط] ٥١٤٨ - إنِّي امرؤٌ قَدْ حَلبْتُ الدَّهْرَ أشْطرَهُ
وسَاقَنِي طَبَقٌ منهُ إلى طَبَقٍ
٢٣٩
فيحتمل الأمرين، أي : ساقني من حالة إلى أخرى، أو ساقني من أمَّة ناس إلى أمَّة ناسٍ آخرين، ويكون نصب " طبقاً " على المعنيين على التشبيه بالظرف أو الحال، أي : متنقلاً، والطبقُ أيضاً : ما طابق الشيء أي : ساواه :[ومنه دلالة المطابقة.
قال امرؤ القيس :
٥١٤٩ - ديمة هطلاً
والطبق من الجراد أي الجماعة].
قوله :" عَنْ طَبقٍ " : في " عن " هذه وجهان : أحدهما : أنها في محل نصب على الحال من فاعل " تركبن ".
والثاني : أنَّها صفة لـ " طبقاً ".
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما محل " عن طبق " ؟ قلت : النصب على أنه صفة لـ " طبقاً "، أي : طبقاً مجاوزاً لطبقٍ، [أو حال من الضمير في " لتركبن "، أي : لتركبن طبقاً مجاوزين لطبقٍ، أو مجاوراً، أو مجاورة على حسب القراءة.
وقال أبو البقاء : و " عن " بمعنى :" بعد " ؛ قال :[الكامل] ٥١٥٠ - مَا زِلْتُ أقْطَعُ مُنْهَلاً عَنْ مَنْهَلٍ
حَتَّى أنَخْتُ بِبَابِ عَبْدِ الوَاحِدِ