نَفْسه ؛ لأَنَّهُ إِذَا قتل لا يبقَى له نفْسٌ ولا مالٌ، وبذلك المال فيه إحياءُ النَّفْسِ، فَلَمَّا كان هذا الرضا حاصلاً في الأَعَمِّ الأغلَبِ، لا جَرَمَ ترك ذكْره، وإن كان معتبراً في نَفْس الأَمْر.
فالجواب أَنَّ حمل لفظ " العفوِ " هنا على إسقاط القِصَاص أولىَ منْ حَمله على دَفع القاتل المالَ إلى وليِّ الدمِ ؛ مِنْ وجهين : الأوَّل : أنَّ حقيقة العفوِ إِسْقاط الحِّ ؛ فوجب ألاَّ يكونَ حقيقةً في غيره ؛ دفعاً للاشتراك، وحَمْلُ اللفظ هنا على إِسْقاط الحقِّ أَولى من حمْله على ما ذكَرتمِ ؛ لأَنَّه لَمَّا قال :﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾، كان حمل قولِهِ :﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ﴾ على إسقاط حقِّ القصاص أَوْلَى ؛ لأنَّ قوله " شَيْءٌ " لفظ مبهمٌ، وحمل هذا المبْهَم علَى ذلك المعيَّن المذكور السَّابقِ أَوْلَى.
الثاني : لو كان المرادُ بـ " العَفْو " ما ذكَرتم، لكان قوله ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ عبثاً ؛ لأنَّ بَعْد وُصُول المالِ إِلَيْه في السُّهولة واللِّين، لا حاجة به إلَيْه، ولا حاجَةَ بذلك المُعْكَى أنْ يؤمر بأداء ذلك المَالِ بالإِحْسَان.
والجواب عن الثاني مِنْ وجهين : الأَول : أنَّ ذلك الكلام : إِنَّمَا يتمشَّى بفَرض صُورةٍ مخْصُوصة، وهي ما إذا كان حَقُّ القِصَاصِ مشتركاً بين اثنين، فعفا أحدهما وسكت الآخرُ، والآيَةُ دالَّة على شرعيَّة هذا الحُكْمِ على الإِطْلاقَ، فَحَمْلُ اللَّفْظ المطْلَقِ علَى صُورة خاصَّة مقيَّدة خلافُ الظاَّهر.
الثاني : أن الهاء في قوله ﴿وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ ضميرٌ عائدٌ إلى مذكور سابقٍ، وهو العافِي، فوجَبَ أداء هذا المال إلى العَافِي، وعلى قولكم : يكون أداؤه إلى غيْر العافي فيكون باطلاً.
والجوابُ عن الثَّالث : أنَّ توقيفَ ثُبُوتِ أَخْذِ الدِّية وقبول ذلك لوليِّ الدم، على اعتبار رضا القاتلِ يُخَالِفُ الظَّاهر، وهو غَيْرُ جائزٍ.
فصل قد تَقَدَّمَ أن تقدِيرَ الآية الكريمة يَقْتَضِي شَيْئاً من العَفو، وهذا يُشْكِلُ إِذَا كان الحقّ ليسَ إلا القَوَد فَقَط، فإنَّهُ يقال : القَوَدُ لا يتبعَّض، فما إذا كان مجموعُ حقِّه، إِمَّا القَودَ وَإِمَّا المَالَ ؛ كان مجموعُ حقِّه متبعِّضاً ؛ لأنَّ له أنْ يعفو عن القَود دون لمال وله أن يعفُو عن الكُلِّ.
؟ وتنكير الشَّيء يفيد فائدةً عظيمةً ؛ لأَنَّهُ كان يجوز أن يتوهم أنَّ العفو لا يؤثِّر في سَقُوط القَوَدِ، وعفو بعض الأولياءَ عَنْ حقِّه ؛ كعَفْو جميعهم عَنْ حقِّهم، فلو عرَّف الحقَّ، كان لا يفهم منْه ذلك، فَلَمَّا نكَّره، صار هذا المعْنَى مفهوماً منه.
٢٢٣
فصل في دلالة الآية على كون الفاسق مؤمناً نقل أ ابن عبَّاس تمسَّك بهذه الآية كَوْ الفاسِق مؤمناً مِنْ ثلاثة أوجه : أحدها : أنَّه تعالى سمَّاه مؤمناً، حال ما وجَبَ القِصَاص علَيْه : وإِنَّما وجب القِصَاصُ عليه إذا صدر القتل العمدُ العدوان، وهو بالإِجْماع من الكبائرِ ؛ فدلَّ على أن صاحِبَ الكبيرةِ مؤمنٌ.
وثانيها : أنَّه أثْبَتَ الأخوَّة بيْن القاتل، وبيْن وليِّ الدم، ولا شَكَ أنَّ هذه الأخوَّة تكُون بسَبَب الدِّينِ، قال تعالى :﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات : ١٠] فلولا أَنَّ الإيمَانَ باقٍ مع الفسقِ، وإلاَّ لما بقِيت الأخوَّة الحاصلةُ بسبب الدين.
وثالثها : أنه تبارك وتعالى نَدَبَ إلى العَفْو عن القاتِلِ، والندب إلى العَفْو، إِنَّما يليقُ بالمؤمن.
أجابت المعتزلة عن الأَوَّل : فقالوا : إِنْ قلْنا : المخاطبُ بقوله :﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ هم الأَئمَّةُ، فالسُّؤالُ زائلٌ : وإِنْ قلْنا : هُمُ القاتِلُون، فجوابُهُ مِنْ وجهين : أحدهما : أن القاتل قبل إقدامِهِ على القَتْل، كان مؤمناً فسمَّاه الله تعالى مؤْمنا بهذا التأويل.
الثاني : أن القاتل قد يَتُوب، وعنْد ذلك يكُونُ مؤمناً، ثم إِنَّه تعالَى أَدْخَلَ فيه غير التائبِ تغليباً.
وأجابُوا عن الثَّاني بوجوه : الأوَّل : أَنَّ الآية نزلَتْ قبل أن يقتل أحدٌ أحداً، ولا شكَّ أَنَّ المؤمنين إخوةٌ قبْل الإقدام على القَتْل.
والثاني : الظاهر أنَّ الفاسق يتوبُ، أو نَقُولك المرادُ الأخُوَّة بيْن وليِّ المقتول والقتيل ؛ كما تقدَّم.
الثالث : يجوز أن يكون جعلُه أخاً له في الكتاب ؛ كقوله :﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً﴾ [الأعراف : ٦٥].
الرابع : أنَّه حصَلَ بيْن وليِّ الدمِ، وبيْن القاتل نوعٌ تعلّقُ واختصاصٍ، وهذا القَدْرُ يكْفي في إِطلاق اسْمِ الأُخُوَّة، كما نقول للرجُل : قلْ لصاحبك كذا، إِذَا كان بينهما أَدنَى تعلُّق.
الخامس : ذكر لفْظ الأخُوَّة ؛ ليعْطِف أحدَهُما على صاحبه بِذِكْره ما هو ثابتٌ بينهما من الجنسيَّة.
٢٢٤