قال ابن الخطيب : وإنما أخر هذا عن قوله تعالى :﴿وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا﴾ لقوله :﴿وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات : ٣٠].
قوله :﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾.
قيل : المعنى،  وتسويتها،  فـ " ما " مصدرية.
وقيل : المعنى،  ومن سواها،  وهو الله تعالى،  قيل : المراد بالنفس : آدم عليه الصلاة والسلام.
وقيل : كلُّ نفس منفوسةٍ،  فما التنكير إلا لتعظيمها،  أي نفس عظيمة،  آدم عليه الصلاة والسلام وإما للتكثير،  كقوله تعالى :﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ﴾ [التكوير : ١٤]،  و " سوَّى " بمعنى هيأ.
وقال مجاهد : سوَّى خلقها وعدَّل،  وهذه الأسماء كلها مجرورة على القسم،  أي أقسم الله تعالى بخلقه لما فيه من عجائب الصنعة الدالة عليه - سبحانه وتعالى -.
قوله :﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا﴾ أي : عرَّفها طريقَ الفجور والتقوى،  قاله ابن عباس ومجاهد.
٣٦١
وعن مجاهد أيضاً : عرفها الطاعة والمعصية.
[وعن محمد بن كعب - رضي الله عنه - إذا أراد الله تعالى لعبده خيراً ألهمه الخير فعمل به،  وإذا أراد به الشر ألهمه الشرّ فعمل به.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : ألهم المؤمن التقي تقواه وألهم الكافر فجوره،  وعن قتادة : بين لها فجورها وتقواها،  والفجور والتقوى مصدران في موضع المفعول].
قال الواحدي : الإلهام هو أن يوقع الله في قلب العبد شيئاً،  وإذا أوقع في قلبه فقد ألزمه إياه،  من قولهم : لهم الشيء وألهمه : إذا بلغه،  وألهمته ذلك الشيء،  أي أبلغته،  هذا هو الأصل ثم استعمل ذلك فيما يقذفه الله تعالى في قلب العبد لأنه كالإبلاغ.
قوله :﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾.
فيه وجهان : أحدهما : أنه جواب القسم،  والأصل : لقد وإنما حذفت لطول الكلام،  والثاني : أنه ليس بجواب،  وإنما جيء به تابعاً لقوله تعالى :﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ على سبيل الاستطراد،  وليس من جواب القسم في شيء،  فالجواب محذوف،  تقديره [ليدمرن] الله عليهم،  أي : على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله ﷺ كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحاً - عليه الصلاة والسلام - قال معناه الزمخشري.
وقدر غيره : لتبعثن.
وقيل : هو على التقديم والتأخير بغير حذف،  والمعنى : قد أفلح من زكاها،  وقد خاب من دساها،  والشمس وضحاها.
وفاعل " زكّاها " و " دسّاها "،  الظاهر أنه ضمير " مَنْ ".
وقيل : ضمير الباري تعالى،  أي : أفلح وفاز من زكاها بالطاعة،  وقد خاب من دساها أي : خسرت نفسٌ دسها الله تعالى بالمعصية،  وأنحى الزمخشري على صاحب هذا القول لمنافرته مذهبه.
قال شهاب الدين : والحق أنه خلاف الظاهر،  لا لما قال الزمخشري،  بل لمنافرة نظمه للاحتياج إلى عود الضمير على النفس مقيدة بإضافتها إلى ضمير " من ".
٣٦٢
وقال ابن عباس : خابت نفس أضلها الله وأغواها.
وقيل : أفلح من زكى نفسه بطاعة الله،  " وخاب " خسر من دس نفسه في المعاصي.
قاله قتادة.
وأصل الزكاة : النمو والزيادة،  ومنه تزكى الزَّرع إذا كثر معه،  ومنه تزكية القاضي الشاهد،  لأنه يرفعه بالتعديل.
وقيل : دساها : أغواها،  قال :[الطويل] ٥٢٢٢ - وأَنْتَ الَّذِي دسَّيْتَ عَمْراً فأصْبَحتَ
حَلائِلهُ مِنْهُ أرَامِلُ ضُيَّعَا
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٥٤
قال أهل اللغة : والأصل،  دسها،  من التدسيس [فكثرت الأمثال فأبدل من ثالثها حرف علة كما قالوا : قصيت أظفاري،  وأصله قصصت،  وتقضب البازي،  والتدسية : الإخفاء يعني أخفاه بالفجور،  وقد نطق بالأصل الشاعر المتقدم.
وقال آخر :[الكامل] ٥٢٢٣ - ودَسَسْتَ عَمْراً في التُّرَابِ فأصِبَحَتْ
….........................................
[وهو إخفاء الشيء في الشيء،  فأبدلت سينه ياءً.
وقال ابن الأعرابي :" وقَدْ خَابَ من دسَّاهَا " أي : دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم].
قال الواحدي : فكأنه - تعالى - أقسم على فلاح من طهره وخسارة من خذله لئلا يظن أن المراد بتولي ذلك من غير قضاء سابق،  فقوله :" قَدْ أفلَحَ " : هو جواب القسم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٥٤
قوله :﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ﴾.
في هذه الباء ثلاثة أوجه : أحدها : أنها للاستعانة مجازاً،  كقولك :" كتبت بالقلم "،  وبه بدأ الزمخشري،  يعني فعلت التكذيب بطغيانها،  كقولك : ظلمني بجرأته على الله تعالى.
والثاني : أنها للتعدية،  أي كذبت بما أوعدت به من عذابها ذي الطغيان،  كقوله تعالى :﴿فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ﴾ [الحاقة : ٥] قال ابن عباس - رضي الله عنه - : وكان اسم
٣٦٣
العذاب الذي جاءها الطغوى،  لأنه طغى عليهم.
قال ابن الخطيب : وهذا لا يبعد لأن الطغيان مجاوزة [الحد فسمي عذابهم طغوا لأنه كالصحية مجاوزة] للقدر المعتاد.
والثالث : أنها للسببية،  أي : بسبب طغيانها،  وهو خروجها عن الحدّ في العصيان قاله مجاهد وقتادة وغيرهما.
وقال محمد بن كعب : بأجمعها.
وقيل : مصدر،  وخرج على هذا المخرج،  لأنه أشكل برءوس الآي.
وقيل : إن الأصل " بطُغيانِهَا " إلا أن " فُعلَى " إذا كانت من ذوات الياء أبدلت في الاسم واو ليفصل بين الاسم والوصف.
وقرأ العامة :" بطغواها " بفتح الطاء،  وهو مصدر بمعنى الطغيان،  وإنما قلبت الياء واواً لما تقدم،  من الفرق بين الاسم والصفة،  يعني أنهم يقرون ياء " فَعْلى " - بالفتح - صفة،  نحو جريا،  وصديا،  ويقلبونها في الاسم،  نحو " تَقْوَى،  وشَرْوَى "،  وكان الإقرار في الوصف،  لأنه أثقل من الاسم أخف من الواو،  فلذلك جعلت في الأثقل.
وقرأ احسن ومحمد بن كعب والجحدري،  وحماد : بضم الطاء،  وهو أيضاً مصدر،  كالرُّجعى والحسنى،  إلا أن هذا شاذ،  إذ كان من حقه بقاء الياء على حالها،  كالسُّقيا،  وبابها،  وهذا كله عند من يقول :" طغيت طغياناً " بالياء،  فأما من يقول :" طغوت " بالواو فالواو أصل عنده.
قاله أبو البقاء،  وقد تقدم الكلام على اللغتين في البقرة.
قوله :﴿إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا﴾.
يجوز في " إذ " وجهان : أحدهما : أن تكون طرفاً لـ " كذبت ".
والثاني : أن تكون ظرفاً للطغوى.
و " انبعثت " مطاوع بعثت فلاناً على الأمر فانبعث له،  و " أشْقَاهَا " فاعل " انبعَثَ " أي : نهض،  والانبعاث : الإسراع،  وفيه وجهان : أحدهما : ان يراد به شخص معين،  روي أن اسمه : قدار بن سالف.
٣٦٤
والثاني : أن يراد به جماعة قال الزمخشري : ويجوز أن يكونوا جماعة للتسوية في " أفعل " التفضيل،  إذا أضيف بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث،  وكان يجوز أن يقول :" أشْقَوها ".
وكان ينبغي أن يقيد،  فيقول : إذا أضيف إلى معرفة،  لأن المضاف إلى النكرة حكمه الإفراد والتذكير مطلقاً كالمقترن بـ " من ".
فصل قال رسول الله ﷺ :" إذ انبَعَثَ أشْقَاهَا : انبعث لهَا رجلٌ عزيزٌ عارمٌ،  منيعٌ في أهلِه،  مثلُ أبي زمعة " الحديث.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٦٣