قوله :﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى ﴾.
إلى آخر السورة.
قيل : إنه نزل في أبي جهل، نهى النبي ﷺ عن الصلاة، فأمر الله تعالى نبيه ﷺ أن يصلي في المسجدِ، ويقرأ باسم الربِّ - تبارك وتعالى - وعلى هذا فليست السورة من أول ما نزل، ويجوز أن يكون خمس آياتٍ من أولها أولى ما نزل، ثم نزل البقية في شأن أبي جهل، وأمر النبي ﷺ بضم ذلك إلى أول السورة ؛ لأن تأليف السور إنما كان بأمر الله تعالى، ألا ترى أنَّ قوله تعالى :﴿وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ [البقرة : ٢٨١] آخر ما نزل هو مضموم إلى ما نزل قبله بزمان طويل.
و " كلاَّ " بمعنى حقاً.
قال الجرجانيُّ : لأن ليس قبله ولا بعده شيء يكون " كلاَّ " ردًّا له، كما قالوا في ﴿كَلاَّ وَالْقَمَرِ﴾ [المدثر : ٣٢] فإنهم قالوا : معناه : أي والقمر ؛ لأنه ردع وزجر لمن كفر بنعمة الله بطغيانه، وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه.
وقال مقاتل : كلاَّ ليعلم الإنسان أن الله تعالى هو الذي خلقه من العلقة، وعلمه بعد الجهل ؛ لأنه عند صيرورته غنياً يطغى، ويتكبر ويصير مستغرق القلب في حُبِّ الدنيا، فلا يفكر في هذه الأحوال ولا يتأمل فيها.
قوله :﴿أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ﴾، مفعول له، أي : رؤيته نفسه مُسْتغنياً، وتعدى الفعل هنا إلى ضميريه المتصلين ؛ لأن هذا من خواص هذا الكتاب.
قال الزمخشريُّ :" ومعنى الرؤية، ولو كانت بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين، و " اسْتَغْنَى : هو المفعول الثاني ".
قال شهاب الدين : والمسألة فيها خلاف، ذهب جماعةٌ إلى أن " رأى " البصرية تعطى حكم العلمية، وجعل من ذلك قول عائشة - رضي الله عنها - : لقد رأيتنا مع رسول
٤١٧
الله ﷺ وما لما إلا الأسودان ؛ وأنشد :[الكامل] ٥٢٥٥ - ولقَد أرَانِي للرِّمَاحِ دَرِيئَةً
مِنْ عَنْ يَمينِي تَارَةً وأمَامِي
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٤١٧
وتقدم تحقيقه.
وقرأ قنبل بخلاف عنه :" رأه " دون ألف بعد الهمزة، وهو مقصور من " رآه " في قراءة العامة.
ولا شك أن الحذف جاء قليلاً، كقولهم :" أصاب الناس جهداً ولو تر أهل مكة " بحذف لام " ترى " ؛ وقول الآخر :[الرجز]
٥٢٥٦ - وصَّانِيَ العَجَّاجُ فِيَمَا وصَّنِي
يريد : فيما وصاني، ولما روي عن مجاهد هذه القراءة عن قنبل، وقال :" قرأت بها عليه " نسبه فيها إلى الغلط، ولا ينبغي ذلك، لأنه إذا ثبت ذلك قراءة، فإن لها وجهاً وإن كان غيره أشهر منه، لا يبتغي أن يقدم على تغليظه.
فصل في نزول الآية قال ابن عبَّاسٍ في رواية " أبي صالح " : لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون، أتاه أبو جهل، فقال : يا محمد، أتزعم أنه من استغنى طغى، فاجعل لنا جبال " مكة " ذهباً لعلنا نأخذ منها فنطغى، فندعُ ديننا، ونتبع دينك، قال : فأتاه جبريل - عليه السلام - فقال : يا محمد خيِّرهم في ذلك، فإن شاءوا فعلنا لهم ما أرادوه، فإن لم يفعلوا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدةِ فعلم رسول الله ﷺ أنهم لا يقبلون ذلك، فكفّ عنهم أسفاً عليهم.
[وقيل : أن رآه استغنى بالعشيرة والأنصار والأعوان، وحذف اللام من قوله :" أن رآه " كما يقال : إنكم لتطغون أن رأيتم غناكم] قوله :﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ﴾.
هذا الكلام واقع على طريقة الالتفات إلى الإنسان تهديداً له وتحذيراً من عاقبة الطغيان، والمعنى : أن مرجع من هذا وصفه إلى الله تعالى، فيجازيه.
٤١٨