الدَّرجَات ؛ فإنَّه قولَ العَرَبِ في هذا المعنى " القَتْلُ أَوْقَى لِلْقَتْلِ "، ويروى " أَنْفَى لِلْقَتْل "، ويروَى " أَكَفُّ لِلْقَتْلِ "، ويروى " قَتْلُ البَعْضِ أَحْيَا الجَمِيع "، ويروى :" أَكْثِروا القَتْلَ ليقلَّ القَتْلُ " فهذا وإن كان بليغاً فقد أَبْدَتِ العُلماءُ بَيْنه وبيْنَ الآية الكريمةِ وجوهاً عديدةً في البلاغة، وُجدت في الآية الكريمة دونه : منْها : أَنَّ في قولِهِم تكرارَ الاسم في جُمْلةٍ واحدةٍ.
ومنها : أَنَّهُ لا بدَّ مِنْ تقدير حَذْفٍ ؛ لأنَّ " أَنْفَى " و " أَوقَى " و " أَكَفُّ " أفعل تفضيل فلا بدَّ من تقدير المفضَّل عليه، أي : أنفى لِلْقتلِ مِنْ تركِ القتل.
ومنها : أنَّ القِصَاص أَعَمُّ ؛ إِذ يوجد في النَّفْس وفي الطَّرف، والقتلُ لا يكون إلاَّ في النَّفسِ.
ومنها : أَنَّ ظاهر قولهم كونُ وجود الشيء سَبَباً في انتفاءِ نفسه.
ومنها : أَنَّ في الآية نَوعاً من البديع يُسمَّى الطبَاقَ، وهو مقابلةُ الشيءِ بضدِّه، فهو يُشبه قوله تعالى :﴿أَضْحَكَ وَأَبْكَى ﴾ ﴿النجم : ٤٣].
قوله :{ يا أولى الأَلْبَابِ﴾ منادًى مضافٌ وعلامة نصبه الياءُ، واعلم أنَّ " أُولِي " اسمُ جَمع ؛ لأَنَّ واحده، وهو " ذُو " من غَير لفظه، ويجري مَجرى جمع المذكَّر السَّالم في رفعه بالواو ونصبه وجرِّه بالياء المكسور ما قبلها، وحُكمه في لُزُوم الإضافة إلى اسم جنس حكمُ مفردِهِ، وقد تقَدَّمَ في قوله تعالى :﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾ [البقرة : ١٧٧] ويقابلُهُ في المؤنث " أُولاَت " وكتباً في المُصْحف بواوٍ بعد الهمزة ؛ قالوا : ليفرِّقوا بين " أُولِي كَذَا " في النَّصْب والجَرِّ، وبن " إِلَى " الَّتي هي حرفُ جرٍّ، ثم حمل باقي البَابِ علَيْه، وهذا كما تقدَّمَ في الفَرق بين " أُولَئِكَ " اسْمَ إشارةٍ، و " إِلَيْكَ " جاراً ومجروراً وقد تقدَّم، وإذا سَمَّيْتَ بـ " أولى "، من " أُولِي كَذَا " قلت :" جَاءَ أُلُونَ، وَرَأَيْتَ أُلِينَ " بردِّ النُّون ؛ لأَنَّها كالمقدَّرة حالة الإضافة، فهو نظيرُ " ضَارِبُوا زَيْجٍ وَضَارِبي زَيْدٍ ".
والأَلبَابُ : جمع لُبٍّ، وهو العقلُ الخالي من الهوَى ؛ سمِّي بذلك لأحَدِ وَجهين : إما لبنائِهِ مِنْ لَبَّ بالمَكَانٍ : أَقَامَ به وإِمَّا من اللُّبَابِ، وهو الخَالِص ؛ يقال : لَبُيْتَّ بالمكان، ولَببْتُ بضمِّ العين، وكسرها، ومجيء المضاعف على " فَعْلٍ " بضم العَين شاذٌّ، استغنَوْا عنه بـ " فَعَلَ " مفتوح العين ؛ وذلك في أَلفاظ محصورةٍ ؛ نحو عَزُزْتُ، وسَرُرْتُ، ولَبُبْبُ، ودَمُمْتُ، ومَلُلْتُ فهذه بالضمِّ وبالفَتْح، إلاَّ " لَبُبُبُ " فبالضمِّ والكَسْر ؛ كما تقدَّم.
قوله ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ : قال الحسن والأصمُّ : لعلَّكمْ تَتَّقُونَ نفْس القَتْل ؛ بخَوف القِصَاصِ.
٢٣٠
وقيل : المرادُ هوالتقْوَى من كُلِّ الوُجُوه.
قال الجُبَّائِيُّ : هذا يَدُلُّ على أنَّهُ تعالى أراد التَّقْوى مِنَ الكُلِّ، سواءٌ كان في المعْلُوم أنهم يَتَّقُونَ أَوْ لاَ يَتَّقُون بخلاف قول المُجْبِرَةِ، وقد سَبَق جوابُه.
فإِن قيل " لَعلَّ " للتَّرَجِّي، وهو في حقِّ اللَّهِ تعالى محالٌ، فجوابهُ مَا سَبَقَ في قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة : ٢١].
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٢٨