أمر فظيع، قال تعالى :﴿وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ﴾ [الرعد : ٣١]، وهي الشديدة من شدائد الدَّهرِ.
قوله تعالى :﴿الْقَارِعَةُ﴾ استفهام على حجة التعظيم والتفخيم لشأنها، كقوله تعالى :﴿الْحَاقَّةُ مَا الْحَآقَّةُ﴾ [الحاقة : ١، ٢]، واختلفوا في سبب تسمية القيامة بالقارعة، فقيل : المراد بالقارعة : الصيحة التي يموت منها الخلائقُ ؛ لأنها تقرع أسماعهم.
وقيل : إنَّ الأجرام العلوية والسفلية يصطكَّان، فيموت العالم بسبب تلك القرعة، فلذلك سميت بالقارعة، [وقيل : تقرع الناس بالأهوال كانشقاق السموات، وأقطارها وتكوير الشمس، وانتثار الكواكب، ودك الجبال ونسفها، وطي الأرض.
وقيل : لأنها تقرع أعداء الله بالعذاب]، وقوله تعالى :﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾، أي : لا علم لك بكنهها ؛ لأنها في الشدة بحيث لا يبلغها وهم أحد، وعلى هذا يكون آخر السورة مطابقاً لأولها.
فإن قيل : هاهنا قال :﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾، ثم قال في آخر السورة :﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ﴾، ولم يقل : وما أدراك ما هاوية ؟ فالجواب : الفرق أن كونها قارعة أمر محسوس، وكونها هاوية ليس كذلك، فظهر الفرق.
قوله :﴿يَوْمَ يَكُونُ﴾.
في ناصب " يَوْمَ " أوجه : أحدها : مضمر يدلّ عليه القارعة، أي : تقرعهم يوم يكون وقيل : تقديره : تأتي القارعة يوم.
الثاني : أنه اذكر مقدراً، فهو مفعول به لا ظرف.
الثالث : أنه " القَارِعَةُ " قاله ابن عطية، وأبو البقاء، ومكيٌّ.
قال أبو حيان : فإن كان عنى ابن عطيَّة اللفظ الأول، فلا يجوز، للفصل بين العاملين وهو في صلة " أل " والمعمول بأجنبي، وهو الخبر، وإن جعل القارعة علماً للقيامة، فلا يعمل أيضاً، وإن عنى الثاني والثالث، فلا يلتئم معنى الظرفية معه.
الرابع : أنه فعل مقدر للقارعة الأولى، كأنه قيل : تأتي القارعة يوم يكون.
قاله مكي.
وعلى هذا يكون ما بينهما اعتراضاً، وهو بعيد جداً منافر لنظم الكلامِ.
وقرأ زيد بن علي : يَوْمَ " بالرفع، خبراً لمبتدأ محذوف، أي : وقتها يوم.
٤٧٠
قوله :" كالفَراشِ ".
يجوز أن يكون خبراً للناقصة، وأن يكون حالاً من فاعل التامة، أي : يؤخذون ويحشرون شبه الفراش، وهو طائر معروف.
وقال قتادة : الفراش : الطَّير الذي يتساقط في النار والسراج، الواحدة : فراشة.
وقال الفراءُ : هو الهمج من البعوض والجراد وغيرهما، وبه يضرب المثل في الطّيش والهوج، يقال : أطيش من فراشة ؛ وأنشد :[البسيط] ٥٢٨٩ - فَراشَةُ الحِلْمِ فِرعَوْنُ العَذابُ وإنْ
يَطلُبْ نَداهُ فَكَلْبٌ دُونَهُ كُلُبُ
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٤٦٩
وقال آخر :[الطويل] ٥٢٨٩ - وقَدْ كَانَ أقْوَامٌ رَدَدْتَ قُلوبَهُمْ
عَليْهِمْ وكَانُوا كالفَراشِ مِنَ الجَهْلِ
وقال آخر :[الرجز] ٥٢٩٠ - طُويِّشٌ من نَفرٍ أطْيَاشِ
أطْيَشُ من طَائرةِ الفَراشِ
والفراشة : الماءُ القليلُ في الإناء وفراشة القُفل لشببها بالفراشة، وروى " مسلم " عن جابر - رضي الله عنه - قال : قال رسولُ الله ﷺ :" مَثلِي ومَثلكُمْ كَمَثلِ رجُلٍ أوْقدَ نَاراً فجعَلَ الجنَادِبُ والفراشُ يَقعْنَ فِيهَا وهو يُذُوُّهُنَّ عَنْهَا، وأنَا آخِذٌ بحُجَزِكُمْ عَن النَّارِ، وأنْتُمْ تَفْلتُونَ مِنْ يَدِي ".
في تشبيه الناس بالفراش مبالغات شتَّى : منها الطيشُ الذي يلحقهم، وانتشارهم في الأرض، وركوب بعضهم بعضاً، والكثرة، والضعف، والذلة والمجيء من غير ذهاب، والقصد إلى الداعيمن كل جهة، والتطاير إلى النار ؛ قال جريرٌ :[الكامل] ٥٢٩١ - إنَّ الفَرزْدَقَ ما عَلمْتَ وقوْمَهُ
مِثْلُ الفَرَاشِ غشيْنَ نَارَ المُصْطَلِي
والمبثوث : المتفرق، وقال تعالى في موضع آخر :﴿كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ﴾ [القمر : ٧].
فأول حالهم كالفراش لا وجه له يتحير في كل وجه، ثم يكون كالجراد، لأن لها وجهاً تقصده والمبثوث : المتفرق المنتشر، وإنما ذكر على اللفظ كقوله تعالى :﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ [الحاقة : ٧].
٤٧١
قال ابن عباس :" كالفَرَاشِ المبثُوثِ " كغوغاء الجراد، يركب بعضها بعضاً، كذلك الناس، يجول بعضهم في بعض إذا بعثوا " ؟ فإن قيل كيف يشبهُ الشيء الواحد بالصغير والكبير معاً، لأنه شبههم بالجراد المنتشر والفراش المبثوث ؟ فالجواب : أما التشبيه بالفرش، فبذهاب كل واحد إلى جهة الآخر، وأما التشبيه بالجراد، فبالكثرة والتتابع، ويكون كباراً، ثم يكون صغاراً.
قوله :﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ﴾.
أي : الصوف الذي ينقش باليد، أي : تصير هباء وتزول، كقوله تعالى :﴿هَبَآءً مُّنبَثّاً﴾ [الواقعة : ٦].
قال أهل اللغة : العهنُ : الصوف المصبوغ.
وقد تقدم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٤٦٩