وإنشاده :" من يفعل الصالحات الله يحفظه " يجوز أَنْ يكون روايةً إلاَّ أنَّ سيبَويْه لم يُنْشِدْه كذا، بل كما تقدَّم، والمُبرِّد روى عنه : أنَّه لا يجيز حذف الفاء مطلقاً، لا في ضرورةٍ، ولا غيرها، ويرويه :" مَنْ يَفْعَلِ الخَيْرَ، فالرَّحْمنُ يَشْكُرُهُ " وردَّ النَّاس عليه بأنَّ هذه ليست حجّةً على رواية سيبَويْهِ.
ويجوز أنَّ تكون " إِذَا " شرطيَّةً ؛ فيكون جوابُها وجوابُ " إِنْ " محذوفَيْن، وتحقيقُه أَنَّ جوابَ " إِنْ " مقدرٌ، تقديرُه :" كُتِبَ الوصيَّةُ على أحدِكُمْ إذا حضره الموتُ، إنْ ترك خَيْراً، فَلْيُوصِ "، فقوله :" فَلْيُوصِ " جواب لـ " إِنْ " ؛ حُذِفَ لدلالة الكلام عليه، ويكون هذا الجوابُ المقدَّر دالاًّ على جواب " إِذَا " فيكون المحذُوف دالاًّ على محذوف مثله.
وهذا أَوْلَى مِنْ قَوْل من يَقُولُ : إنَّ الشَّرط الثَّاني جواب الأَوَّل، وحُذِفَ جواب الثَّاني، وأولى أيضاً مِنْ تقدير مَنْ يقدِّره في معنى " كُتِبَ " ماضي المعنى، إلاَّ أن يؤوِّله بمعنَى :" يتوجَّه علَيْكُمْ الكَتْبُ، إن تَرَكَ خَيْراً ".
قوله " الوَصِيّة " فيه ثلاثةُ أوجُهٍ : أحدها : أن يكُونَ مبتدأً، وخبره " لِلْوَالِدَيْنِ ".
والثاني : أنَّهُ مفعول " كُتِبَ "، وقد تقدَّم.
والثالث : أنَّهُ مبتدأٌ، خبره محذوف، أي :" فعلَيْهِ الوصيَّةُ "، وهذا عند مَنْ يجيزُ حذف فاء الجَوابِ، وهو الأخفشُ ؛ وهو محجوجٌ بنقل سيبَوَيْهِ.
فصل في المراد من حضور الموت.
قوله ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ ليْس المرادُ منْه معاينةَ الموْتِ ؛ لأَنَّ ذلك الوقْت يكُون عاجزاً عن الإيصاء، ثم ذكر في ذلك وجهَين : أحداهم : وهو المَشهور أنَّ المرادَ حُضُور أمارةِ المَوت ؛ كالمَرَض المَخُوف ؛ كما يقال فيمن يخافُ علَيه المَوْت حَضَرهُ المَوْتُ ويقالُ لِمَنْ قارب البَلَد :" وَصَلَ " ؛ قال عنترة :[الوافر] ٩٢١ - وَإِنَّ المَوْتَ طَوْعُ يَدِي إِذَا ما
وَصَلْتُ بَنَانَها بِالْهِنْدُوَانِي
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٣١
وقال جَرِيرُ، يهْجُو الفَرَزدَق [الوافر] ٩٢٢ - أَنَّا الْمَوْتُ الَّذِي حُدِّثْتَ عَنْهُ
فَلَيْسَ لِهَارِبٍ مِنِّي نَجَاءٌ
٢٣٣
والثاني : قال الأصمُّ : إِنَّ المُرَادَ : فَرَضْنَا عَليْكُم الوصِيَّة في حَالِ الصَّحَّة بأن تقُولُوا :" إِذا حَضَرَنا المَوْتُ، فافْعَلُوا كذا ".
فصل في المراد بالخير في الآية المرادُ بالخَير هنا المالُ ؛ كقوله :﴿وَمَا تُنْفِقُونَ مِنْ خَيْرٍ﴾ [البقرة : ٢٧٢] ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات : ٨] ﴿مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص : ٢٤] قال أبو العبَّاس المُقرىءُ : وقد وَرَدَ لفظ " الخَيْر " في القرآن بإزاء ثمانية معان : الأَوَّل : الخَيْرُ : المالُ ؛ كهذه الآية.
الثاني : الإيمانُ، قال تعالى :﴿إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً﴾ [الأنفال : ٢٣] أي : إيماناً، وقوله ﴿﴾ [الأنفال : ٧٠]، يعني : إيماناً.
الثالث : الخير الفضل ؛ ومنه قوله :﴿خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [المائدة : ١٤][الحج : ٥٨][المؤمنون : ٧٢][سبأ : ٣٩][الجمعة : ١١] ﴿خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾ [المؤمنون : ١٠٩، ١١٨] ﴿خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ [الأعراف : ٨٧][يونس : ١٠٩][يوسف : ٨٠].
الرابع : الخير : العافية ؛ قال تعالى :﴿إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً﴾ [يونس : ١٠٧]، أي : بعافية.
الخامس : الثَّواب قال تعالى :﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ﴾ [الحج : ٣٦]، أي : ثواب وأجر.
السادس : الخير : الطَّعام ؛ قال :﴿إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص : ٢٤].
السابع : الخير : الظَّفر والغنيمة ؛ قال تعالى :﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً﴾ [الأحزاب : ٢٥].
الثامن : الخير : الخيل ؛ قال تعالى :﴿أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي﴾ [ص : ٣٢]، يعني : الخيل.
ثم اختلفوا هان على قولين : فقال الزهريُّ : لا فرق بين القليل، والكثير، فالوصيَّة واجبة في الكلِّ، لأن المال القليل خير ؛ لقوله تعالى :﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ [الزلزلة : ٧ - ٨] ﴿إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص : ٢٤] والخير : ما ينتفع به، والمال القليل كذلك، وأيضاً : قوله تعالى في المواريث :﴿لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ﴾ [النساء : ٧] فتكون الوصية كذلك.
٢٣٤