فصل في الكلام على " يا " قال ابنُ الخطيب : روي عن عليّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - أن " يا " نداء النفس، و " أي " نداء القلب و " ها " نداء للروح.
وقيل " يا " نداء الغائب، و " أي : للحاضر، و " ها " للتنبيه، كأنه - عزَّ وجلَّ - يقول : أدعوك ثلاثاً، ولا تجبني مرة.
قوله :﴿لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾.
في " مَا " في هذه السورة وجهان : أحدهما : أن تكون بمعنى " الذي ".
والثانية : فالأمر فيها واضح ؛ لأنها غير عقلاء.
و " ما " أصلها أن تكون لغير العقلاء، وإذا أريد بها الباري - تعالى - كما في الثانية والرابعة، فاستدلّ به من جوز وقوعها على أول العلمِ، ومن منع جعلها مصدرة، والتقدير : ولا أنتم عابدون عبادتي، أي : مثل عبادتي.
وقال أبو مسلم :" ما " في الأوليين بمعنى " الذي " والمقصود : المعبود، و " ما " في الأخريين مصدرية، أي : لا أعبد عبادتكم المبنية على الشَّك وترك النظر، ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي المبنية على اليقين، فيحصل من مجموع ذلك ثلاثة أقوال : أنها كلَّها بمعنى " الذي "، أو مصدرية، أو الأوليان لمعنى الذي، والثالثة والرابعة مصدرية، لكان حسناً، حتى لا يلزم وقوع " ما " على أولي العلم، وهو مقضتى من يمنه وقوعها على أولي العلم، كما تقدم.
فصل في التكرار في الآية اختلفوا في التَّكرار - هاهنا - هل هو للتأكيد، أم لا ؟ وإذا لم يكن للتأكيد فقوله تعالى :﴿وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ﴾ تأكيد لقوله ﴿لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ وقوله :﴿وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ ثانياً تأكيد لقوله :﴿وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ أولاً.
ومثله :﴿فَبِأَيِّ آلا ااءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن : ١٣]، و ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المرسلات : ١٥] في سورتيهما، و ﴿كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [التكاثر : ٣، ٤ ]، و ﴿كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ﴾ وفي الحديث :" فَلاَ آذَنُ ثُمَّ لا آذنُ، إنَّما فَاطِمةُ بَضعَةٌ منِّي " ؛ وقال الشاعر :[مجزوء الكامل] >
٥٣٣٠ - هَلاَّ سَألْتَ جُموعَ كِنْـ
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٥٢٧
ـدّةَ يَوْمَ ولَّوْا أيْنَ أيْنَا
وقوله :[الرجز]
٥٣١
٥٣٣١ - يَا عَلْقَمَهْ يَا عَلْقَمَهْ يَا عَلْقَمَهْ
خَيْرَ تَمِيمٍ كُلَّهَا وأكْرَمَهْ
وقوله :[الرجز] ٥٣٣٢ - يَا أقَرعُ بْنُ حَابِسٍ يَا أقْرَعُ
إنَّكَ إنْ يُضرَعْ أخُوكَ تُضْرَعُ
وقوله :[الطويل] ٥٣٣٣ - ألا يا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي
ثَلاثَ تَحِيَّاتٍ وإنْ لَمْ تَكَلَّمِ
وقوله :[الرجز] ٥٣٣٤ - يَا جَعْفَرٌ يَا جَعْفَرٌ يَا جَعْفَر
إنْ أكُ دَحْدَاحَاً فأنت أقْصَرَ
وقوله :[المديد] ٥٣٣٥ - يَا لَبكْرٍ أنْشِزُوا لِي كُلَيْبَاً
يَا لَبكْرٍ أيْنَ أيْنَ الفِرَارِ
قالوا : والقرآن جاء على أساليب كلام العرب، وفائدة التكرير هنا، قطع أطماع إلهك، ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك]، فتجزي على هذا أبداً سنةٌ وسنةً، فأجيبوا عن كل ما قالوه بضده، أي : أن هذا لا يكون أبداً.
وقال جماعة : ليس للتأكيد، فقال الأخفش :" لا أعبدُ " الساعة " مَا تَعْبُدُونَ "، ولا أنْتُم عَابِدُونَ " السنة " مَا أعبدُ " فلا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد ؛ فزال التوكيد إذ قد تقيد كل جملة بزمان مغاير ؛ انتهى.
وفيه نظر، كيف يقيد رسول الله ﷺ نفي عبادته لما يعبدون بزمان ؟ هذا مما لا يصح، وفي أسباب النزول أنهم سألوه أن يعبد آلهتهم سنة، فنزلت، فيكف يستقيم هذا ؟ وجعل أبو مسلم التغاير بما تقدم عنه، وهو كون " ما " في الأوليين بمعنى " الذي "، وفي الأخريين : مصدرية، وفيه نظر من حيث إن التكرار إنَّما هو من حيث المعنى، وهذا موجود، كيف قدر " مَا ".
٥٣٢