أي : أظلم واعتكر، وقيل : الغاسق : الثُّريَّا، لأنها إذا سقطت كثرت الأسقام والطواعين، وإذا طلعت ارتفع ذلك.
قاله عبد الرحمن بن زيد.
وقال القتبي : القمر إذا وقب إذا دخل في ساهورة كالغلاف إذا خسف وكل شيء أسود فهو غسق.
وقال قتادة :" إذَا وقَبَ " إذا غاب.
قال القرطبي : وهو أصح، لما " روى الترمذي عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي ﷺ نظر إلى القمر، فقال :" يا عَائِشةُ، استَعِيذِي باللهِ من شرِّ هذا، فإنَّ هذا هُوَ الغاسقُ إذا وقبَ "، قال : هذا حديث حسن صحيح.
[وقيل : الغاسق : الحيَّة إذا لدغت، وكأن الغاسق نابها لأن السم يغسق منه أي : يسيل، يقال : غسقت العين تغسق غسقاً، إذا سالت بالماء، وسمي الليل غاسقاً، لانصباب ظلامه على الأرض، ووقب نلبها إذا قامت باللدغ].
وقيل : الغاسقُ : كل هاجم يضر، كائناً ما كان، من قولهم : غسقت القرحة، إذا جرى صديدها.
قال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه آخر، لو أنه صح، أن [القمر في جرمه غير مستنير، بل هو مظلم، فهذا هو المراد من كوته غاسقاً، وأما وقوبه فهو انمحاء نوره في آخر] الشهر والمنجمون يقولون : إنه في آخر الشهر منحوس، قليل القوة ؛ لأنه لا يزال نوره بسبب ذلك تزداد نحوسته، فإن السحرة إنما يشتغلون في السحر الموروث، للتمريض في هذا الوقت، وهذا مناسب لسبب نزول السورة ؛ لأجل أنهم سحروا النبي صلى الله عيه وسلم لأجل التمريض.
٥٧٢
قوله :﴿وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾، النَّفَّاثات : جمع نفاثة، مثال مبالغة من نفث، أي : نفخ، واختلف فيه.
فقال أبو الفضل : شبه النفخ من الفم بالرقية، ولا شيء معه.
قال عنترة :[الوافر] ٥٣٦٩ - فإنْ يَبْرَأ فلمْ أنفُثْ عليْهِ
وإنْ يُفْقَدْ فحُقَّ لهُ الفُقُودُ
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٥٦٨
وقال الزمخشري :" النفخُ مع ريق ".
وقرأ الحسن :" النُّفَّاثات " بضم النون، وهو اسم كالنفاثة.
ويعقوب وعبد الرحمن بن باسط وعيسى بن عمر وعبد الله بن القاسم :" النافثات "، وهي محتملة لقراءة العامة.
والحسن وأبو الربيع :" النفثات " دون ألف محاذر وحذر، ونكّر عاسقاً وحاسداً ؛ لأنه قد يتخلف الضرر فيهما ؛ فإن التنكير للتبعيض، وعرف النفاثات إما للعهد كما يروى في التفسير، وإما للمبالغة في الشَّر.
فصل في معنى النَّفَّاثات قال المفسرون : يعني السَّاحرات اللائي ينفثن في عقد الخيط حين يرقبن عليها.
قال أبو عبيدة : النفاثات هي بنات لبيد بن أعصم اليهودي سحرن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الشاعر :[المتقارب] ٥٣٧٠ - أعُوذُ بربِّي مِنَ النَّافِثَا
تِ في عِضَهِ العَاضهِ المُعْضِهِ
وقال متمم بن نويرة :[السريع] ٥٣٧١ - نَفَثْتُ فِي الخيْطِ شَبيهَ الرُّقَى
مِنْ خَشْيةِ الجِنَّة والحَاسدِ
فصل روى النسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله ﷺ :" مَنْ عَقَدَ عُقدةً ثُمَّ نفث فيها، فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلَّق شيئاً وكُلَ إليْهِ ".
٥٧٣
واختلف في النَّفث عند الرقى : فمنعه قوم، وأجازه آخرون.
قال عكرمة : لا ينبغي للراقي أن ينفث، ولا يمسح، ولا يعقد.
قال إبراهيم : كانوا يكرهون النفث في الراقي، والصحيح الجواز ؛ لأن النبي ﷺ كان ينفث في الرقية.
وروي محمد بن حاطب أن يداه احترقت، فأثبت النبي ﷺ، فجعل ينفث عليها، ويتكلم بكلام، وزعم أنه لم يحفظه.
وروي أن قوماً لدغ فيهم رجل، فأتوا أصحاب النبي ﷺ فقالوا : هل فيكم من راقٍ ؟ فقالوا : لا حتى تجعلوا لنا شيئاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، فجعل رجل منهم يقرأ فاتحة الكتاب ويرقى ويتفل حتى برئ، فأخذوها، فلما رجعوا إلى النبي ﷺ ذكروا ذلك له فقال : وما يدريكم أنها رقية ؟ خذوا واضربوا لي معكم سهماً.
وأما ما روي عن عكرمة فكأنه ذهب فيه إلى أن النفث في العقد مما يستعاذ به بخلاف النفث بلا عقد.
قال ابن الخطيب : هذه الصناعة إنما تعرف بالنِّساء، لأنهن يعقدون في الخيط، وينفثن، وذلك لأن الأصل الأعظم فيه ربط القلب بذلك الأمر، وإحكام الهمَّة والوهم فيه، وذلك إنما يتأتَّى من النساء لقلة عملهن، وشدة شهوتهن، فلا جرم كان هذا العمل منهن أقوى.
قوله :﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾، الحسدُ : هو تمني زوال نعمة المحسود، وإن لم يصر للحاسد مثلها، والمنافسة : هي تمنّي مثلها وإن لم تزل من المحسود، وهي الغبطة، فالحسد : شر مذموم، والمنافسة مباحة.
قال ﷺ :" المؤمن يغبط والمنافق يحسد " وقال : لا حَسَدَ إلاَّ في اثنتينِ " يريد الغبطة.
قال ابن عباس وعائشة - رضي الله عنهما - : لما كان غلام من اليهود يخدم رسول الله ﷺ قربت إليه اليهود، فلم يزالوا حتى أخذوا مشاطة من أثر النبي ﷺ وعدة من أسنان مشطه، فأعطاه اليهود ؛ ليسحروه بها ﷺ وتولى ذلك ابن الأعسم، رجل من اليهود.
٥٧٤


الصفحة التالية
Icon