وقال قوم : نسخت بدليلٍ قياسٍّ، وهو أن نقول : هذه الوصية، لو كانت واجبةً، لكانت، إذا لم توجد هذه الوصيَّة، يجب ألاَّ يسقط حقُّ هؤلاء الأقربين، وقد رأيناهم سقطوا لقوله تعالى في آية المواريث ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء : ١٢] فظاهره يقتضي أنه إذا لم يكن وصيَّةٌ أو دينٌ، فالمال أجمع للوارث.
ولقائل أن يقول : نسخ القرآن بالقياس غير جائزٍ.
قال القرطبيُّ : قوله تعالى " حَقًّا " أي : ثابتاً ثبوت نظرٍ، وتحصين، لا ثبوت فرضٍ ووجوبٍ ؛ بدليل قوله :" عَلَى الْمُتَّقِين " وهذا يدل على كونه مندوباً ؛ لأنه لوكان فرضاً، لكان على جميع المسلمين، فلما خصَّ الله تعالى المُتَّقِي، وهو من يخاف التَّقصير، دلَّ على أنه غير لازم لغيره.

فصل " في حقِّ من نسخت الآية " قال أكثر المفسرين إنها نسخت في حقِّ من يرث ومن لا يرث.


وقال بعض المفسِّرين من الفقهاء : إنَّها نسخت في حقِّ من يرث، وثابتة في حقِّ من لا يرث، وهو مذهب ابن عبَّاس والحسن، ومسروق، وطاوسٍ، والضَّحَّاك، ومسلم بن يسارٍ، والعلاء بن زياد.
؟ قال طاوس : إن من أوصى للأجانب، وترك الأقارب، نزع منهم، وردَّ إلى الأقارب ؛ لوجوب الوصيَّة عند هؤلاء، والباقي للقريب الذي ليس بوارث.
واستدلُّوا بأنَّ هذه الآية دالَّة على وجوب الوصيَّة للقريب، سواء كان وارثاً، أو غير وارث، ترك العمل به في حقِّ القري الوارث، إما بآية الماوريث، أو بقوله - عليه الصلاة والسلام - :" لاَ وَصِيَّةَ لَوَارِثٍ "، وهاهنا الإجماع غير موجود، لأن الخالف فيه قديم وحديث ؛ فوجب أن تبقى الآية دالَّةً على وجوب الوصيَّة للقريب الذي ليس بوارث.
واستدلوا أيضاً بقوله - عليه السلام - :" مَا حَقُّ امْرِىءٍ مُسْلِم لَهُ مُلْكٌ يَبِيتُ لَيْلَتَيْن، إلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ " وقد أجمعنا على أن الوصيَّة غير واجبةً لغير الأقارب ؛ فوجب أن تكون هذه الوصيَّة واجبةً للأقراب، فأمَّا الجمهور، فأجود ما استدلُّوا به على أنها منسوخة في حقِّ الكلِّ قوله :﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء : ١٢] وقد ذكرنا تقريره.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٣١
يجوز في " مَنْ " أن تكون شرطيَّةً وموصولةً، والفاء : إمَّا واجبةٌ، إن كانت شرطاً، وإمَّا جائزةٌ، إن كانت موصولةً، والهاء في " بَدَّلَهُ " يجوز أن تعود على الوصيَّة، وإن كان
٢٤٣
بلفظ المؤنَّث ؛ لأنَّها في معنى المذكَّر، وهو الإيصاء ؛ كقوله تعالى :﴿فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةً﴾ [البقرة : ٢٧٥] أي وعظٌ، أو تعود على نفس الإيصاء المدلول عليه بالوصيَّة، إلاَّ أنَّ اعتبار المذكَّر في المؤنَّث قليلُ، وإن كان مجازيّاً ؛ ألا ترى أنه لا فرق بين قولك :" هْنْدٌ خَرَجَتْ، والشَّمْسُ طَلَعَتْ "، ولا يجوز :" الشّمْسُ طَلَعَ " كما لا يجوز :" هِنْدٌ خَرَجَ " إلا في ضرورة.
وقيل : تعود على الأمر، اولفرض الذي أمر الله به وفرضه.
وقيل : تعود إلى معنى الوصيَّة، وهو قولٌ، أو فعلٌ، وكذلك الضَّمير في " سَمِعَهُ " والضَّمير في " إثْمُهُ " يعود على الإيصاء المبدَّل، أو التَّبديل المفهوم من قوله :" بَدَّلَهُ "، وقد راعى المعنى في قوله :﴿عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ ؛ إذ لو جرى على نسق اللفظ الأول، لقال ﴿ُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾، وقيل : الضَّمير في " بَدَّلَهُ " يعود على الكتب، أو الحَقِّ، أو المعروفِ، فهذه ستَّة أقوال، و " مَا " في قوله :" بَعْدَمَا سَمِعَهُ " يجوز أن تكون مصدريَّةً، أي : بعد سماعه، وأن تكون موصولةً بمعنى " الذي "، فالهاء في " سَمِعَهُ " على الأول تعود على ما عاد عليه الهاء في " بَدَّلَهُ " ؛ وعلى الثاني : تعود على الموصول، أي " بَعْدَ الَّذي سَمِعَهُ مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ ".
فصل في بيان المبدِّل في المبدِّل قولان : أحدهما : انه الوصيُّ، أو الشاهد، أو سائر النَّاس أما الوصيُّ : فبأن يغيِّر الموصى به : إمَّا في الكتابة، أو في قسمة الحقوق، وأمَّا الشاهد : فبأن يغيِّر شهادته، أو يكتمها، وأما غير الوصي والشاهد ؛ فبأن يمنعوا من وصول ذلك المال إلى مستحقِّه، فهؤلاء كلُّهم داخلون تحت قوله :" فَمَنْ بَدَّلَهُ ".
الثاني : أن المبدِّل هو الموصي، نهي عن تغيير الوصيَّة عن موضعها التي بيَّن الله تعالى الوصية إليها ؛ وذلك أنا بيَّنَّا أنهم كانوا في الجاهليَّة يوصون للأجانب، ويتركون الأقارب في الجوع والضَّر، فأمرهم الله تعالى بالوصيَّة إلى الأقربين، ثم زجر بقوله :﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ﴾ أي : من أعرض عن هذا التَّكليف، وقوله :﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، أي سَمِيعٌ لما أوصى به النموصي، عليمٌ بنيَّتهن لا تخفى عليه خافيةٌ من التَّغيير الواقع فيها.
فصل في تبديل الوصيَّة بما لا يجوز قال القرطبيُّ : لا خلاف أنه إذا أوصبى بما لا يجوز ؛ مثل : أن يوصي بخمرٍ، أو
٢٤٤


الصفحة التالية
Icon