يقال : جَنِفَ بِكَسْر النُّون، يَجْنَفُ، بفتحها، فهو جَنِفٌ، وجَانِفٌ، وأَجْنَفَ : جاء بالجَنَفِ، كـ " أَلأَمَ " أي : أتى بما يلام عليه.
والفرق بين الجنف والإثم : أن الجنف هو الميل مع الخطأ، والثم : هو العمد.
فصل في سوء الخاتمة بالمضارة في الوصيَّة روي عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ أنه قال :" إنَّ الرَّجُلَ، أو المَرْأَةَ، لَيَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يَحضُرُهُمَا المَوْتَ، فَيُضَّارَّانِ في الوَصِيَّةِ ؛ فتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ "، ثم قرأ أبو هريرة :" مِنْ بَعْدِ وَصِيَّة " إلى قوله :﴿غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّة﴾ [النساء : ١٢].
فصل والضمير في " بَيْنَهُمْ " عائدٌ على الموصي، والورثة، أو على الموصى لهم، أو على الورثة والموصى لهم، والظاهر عوده على الموصى لهم، إذ يدلُّ على ذلك لفظ " الموصي "، وهو نظير " وأَدَاءٌ إلَيْهِ " في أنَّ الضَّمير يعود للعافي ؛ لاستلزام " عُفِيَ " له ؛ ومثله ما أنشد الفراء :[الوافر] ٩٢٧ - وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضاً
أُرِيدُ الخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٤٥
فالضمير في " أيُّهما " يعود على الخير والشَّرِّ، وإن لم يجر ذلك الشَّرِّ، لدلالة ضده عليه، والضمير في " عَلَيْهِ " وفي " خَافَ " وفي " أَصْلَحَ " يعود على " مَنْ ".
فصل في بيان المراد من المصلح هذا المصلح [من هو ؟ ] الظاهر أنه الوصي، وقد يدخل تحته الشاهد، وقد يكون
٢٤٧
المراد منه من يتولَّى ذلك بعد موته ؛ من والٍ، أو وليٍّ، أو من يأمر بمعروف، فلا وجه للتخصيص، بل الوصيُّ أو الشهد أولى بالدُّخول ؛ لأن تعلقهم أشدُّ، وكيفيَّة الإصلاح أن يزيل ما وقع فيه الجنف، ويردَّ كلَّ حَقٍّ إلى مستحقه.
قال القُرْطُبِيُّ : الخطاب في قوله :﴿فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ﴾ لجميع المسلمين، أي : إن خفتم من موص جنفاً، أي : ميلاً في الوصيَّة، وعدولاً عن الحقِّ، ووقوعاً في إثم، ولم يخرجها بالمعروف بأن يوصي بالمال إلى زوج ابنته، أو لولد ابنته ؛ لينصرف المال إلى ابنته [أو إلى ابن ابنه، والغرض أن ينصرف المال إلى ابنِهِ، أو أوصى لبعيدٍ]، وترك القريب ؛ فبادروا إلى السَّعي في الإصلاح بينهم، فإذا وقع الصُّلح، سقط الإثم عن المصلح، والإصلاح فرض على الكفاية، إذا قام أحدهم به، سقط عن الباقين، وإن لم يفعلوا، أثم الكل.
فإن قيل : هذا الإصلاح طاعةٌ عظيمةٌ، ويستحقُّ الثَّواب عليه، فكيف عبَّر عنه بقوله :﴿فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ ؟ فالجواب : من وجوه : أحدها : أنه تعالى، لما ذكر إثم المبدِّل في أوَّل الآية وهذا أيضاً من التَّبديل، بيَّن مخالفته للأوَّل، وأنه لا إثم عيه ؛ لأنَّه ردَّ الوصيَّة إلى العدل.
وثانيها : أنه إذا أنقص الوصايا، فذلك يصعب على الموصى لهم، ويوهم أن فيه إثماً، فأزال ذلك الوهم، فقال :﴿فَلاَ إِثْمَ عَلَيَهِ﴾.
وثالثها : أن مخالفة الموصي في وصيَّته، وصرفها عمن أحبَّ إلى من كره ؛ فإن ذلك يوهم القبح فبيَّن تعالى أن ذلك حسنٌ ؛ بقوله :﴿فَلاَ إِثْمَ عَلَيَهِ﴾.
ورابعها : أن الإصلاح بين جماعةٍ يحتاج إلى إكثارٍ من القول، ويخاف أن يتخلَّله بعض ما لا ينبغي من القول والفعل ؛ فبيَّن تعالى أنَّه لا ثم عليه في هذا الجنس، إذا كان قصده في الإصلاح جميلاً.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ إنما يليق بمن فعل فعلاً لا يجوز، وهذا الإصلاح من جملة الطَّاعات، فكيف يليق به هذا الكلام ؟ فالجواب من وجوه : أحدهما : ان هذا من باب التَّنبيه بالأدنى على الأعلى، فكأنه قال : انا الذي أغفر للذُّنوب، ثم أرحم المذنب ؛ فبأن اوصل رحمتي وثوابي إليك، مع أنك تحمَّلت المحن الكثيرة في إصلاح هذا المهمِّ كان أولى.
٢٤٨
وثانيها : يحتمل أن يكون المراد : أن ذلك الموصي الذي أقدم على الجنف والإثم، متى أصلحت وصيَّته ؛ فإن الله غفور رحيم يغفر له، ويرحمه بفضله.
وثالثها : أن المصلح، ربما احتاج في الإصلاح إلى أفعال وأقوال، كان الأولى تركها، فإذا علم الله تعالى منه أنَّه ليس غرضه إلا الإصلاح، فإنه لا يؤاخذه بها ؛ لأنه غفور رحيم.
فصل في أفضلية الصدقة حال الصحة قال القرطبيُّ رحمه الله تعالى : والصَّدقة في حال الصِّحَّة أفضل منها عند الموت ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - وقد سئل : أيُّ الصدقة أفضل ؟ فقال :" أن تَصَّدَّقَ، وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ "، وقال - عليه الصلاة والسلام - :" لأنْ يَتَصَدَّقَ المَرْءُ في حَيَاتِهِ بِدِرْهِم خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ عِنْدَ مَوْتِهِ بِمَائَةٍ " وقال - عليه السلام - :" مَثَلُ الَّذِي يُنْفِقُ، وَيَتَصَدَّقُ عِنْدَ مَوْتِهِ مَثَلُ الَّذِي يُهْدِي بَعْدَ مَا يَشْبَعُ " فصل ومن لم يضر في وصيته، كانت كفارة لما ترك من زكاته ؛ لقوله _ عليه الصلاة والسلام _ :"من حضرته الوفاة، فأوصى، فكانت وصيته على كتاب الله ؛ كانت كفارة لما ترك من زكاته".
٢٤٩