﴿بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة : ١٨٠] قال أبو حيَّان - بعد أن حكى هذا عن ابن عطية - : وهذا فيه بعدٌ ؛ لأنَّ تشبيه الصَّوم بالكتابة لا يصحُّ، [هذا إن كانت " ما " مصدريَّةً، وأمَّا إن كانت موصولةً، ففيه أيضاً بعدٌ ؛ لأنَّ تشبيه الصَّوم بالصَّوم لا يصحُّ]، لا على تأويلٍ بعيدٍ.
الرابع : أن يكون في محل نصب على الحال من " الصِّيام " وتكون " ما " موصولةً، أي : مشبهاً الذي كتب، والعامل فيها " كُتِبَ " ؛ لأنَّه عاملٌ في صاحبها.
الخامس : أن يكون في محلِّ رفع ؛ لأنه صفة للصيام، وهذا مردودٌ بأن الجارَّ والمجرور من قبيل النَّكرات، والصِّيام معرفةٌ ؛ فكيف توصف المعرفة بالنكَّرة ؟ وأجاب أبو البقاء عن ذلك ؛ بأن الصَّيام غير معين ؛ كأنَّه يعني أن " ألْ " فيه للجنس، والمعرَّف بأل الجنسيَّة عندهم قريبٌ من النَّكرة ؛ ولذلك جاز أن يعتبر لفظه مرَّةً، ومعناه أخرى ؛ قالوا " أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الحُمْرُ والدِرْهَمُ البِيضُ "، ومنه : ٩٣٣ - وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي
فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ : لاَ يَعْنِينِي
﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ﴾ [يس : ٣٧] وقد تقدّم الكلام على مثل قوله :﴿وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة : ٢١] كيف وصل الموصول بهذا ؛ والجواب عنه في قوله :﴿خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة : ٢١] فصل في المراد بالتشبيه في الآية في هذا التشبيه قولان : أحدهما : أنه عائد إلى أصل إيجاب الصوم، يعني : هذه العبادة كانت مكتوبةً على الأنبياء والأمم من ولد آدم - عليه الصلاة والسلام - إلى عهدكم لم تخل أمَّةٌ من وجوبها عليهم.
وفائدة هذا الكلام : أنَّ الشَّيء الشاقَّ إذا عمَّ، سهل عمله.
القول الثاني : أنه عائد إلى وقت الصَّوم، وإلى قدره، وذكروا فيه وجوهاً : أحدها : قال سعيد بن جبير " كَانَ صَومُ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ العَتَمَةِ إلى اللَّيْلة القَابِلَة ؛ كما كان في ابتداءِ الإسْلاَمِ ".
ثانيها : أن صوم رمضان كان واجباً على اليهود والنصارى، أما اليهود فإنها تركته
٢٥٢
وصامت يوماً في السَّنة، زعموا أنه يوم أن غرق فيه فرعون، وكذبوا ي ذلك أيضاً ؛ لأن ذلك اليوم يوم عاشوراء على لسان رسول الله ﷺ ؛ وأما النصارى، فإنهم صاموا رمضان زماناً طويلاً، فصادفوا فيه الحرَّ الشديد، فكان يشقُّ عليهم في أسفارهم ومعايشهم، فاجتمع رأي علمائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السَّنة بين الشِّتاء والصِّيف، فجعلوه في الرَّبيع، وحوَّلوه إلى وقتٍ لا يتغيَّر، ثم قالوا عند التَّحويل : زيدوا فيه عشرة أيَّام كفَّارةً لما صنعوا ؛ فصار أربعين يوماً، ثم إنَّ ملكاً منهم اشتكى، فجعل الله عليه، إن برىء من وجعه : أن يزيد في صومهم أسبوعاً، فبرىء، وهذا معنى قوله :﴿اتَّخَذُوا ااْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة : ٣١].
قاله الحسن.
وثالثها : قال مجاهدٌ : أصابهم موتان، فقالوا : زيدوا في صيامكم، فزاداو عشراً قبل وعشراً بعد.
ورابعها : قال الشعبي : إنهم أخذوا بالوثيقة، وصاموا قبل الثلاثين يوماً، وبعدها يوماً، ثم لم يزل الأخير يستسن بالقرآن الذي قبله، حتى صاروا إلى خمسين يوماً، ولهذا كُرِّه صوم يوم الشَّكِّ.
٢٥٣
قال الشعبي : لو صمت السَّنة كلَّها، لأفطرت اليوم الذي يشك فيه، فيقال : من شعبان، ويقال : من رمضان.
وخامسها : أن وجه التَّشبيه أن يحرم الطَّعام والشَّراب والجماع بعد اليوم ؛ كما كان قبل ذلك حراماً على سائر الأمم ؛ لقوله تعالى :﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ﴾ [البقرة : ١٨٧].
فإن هذا يفيد نسخ هذا الحكم، ولا دليل يدلُّ عليه إلاَّ هذا التَّشبيه، وهو قوله :﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ ؛ فَوَجبَ أن يكُون هذا التَّشبيه دالاًّ على ثبوت هذا المعنى.
قال أصحاب القول الأول : إن تشبيه شيء بشيء لا يدلُّ على مشابهتهما من كلِّ الوجوه، فلم يلزم من تشبيه صومنا بصومهم أن يكون صومهم مختصّاً برمضان، وأن يكون صومهم قدَّراً بثلاثين يوماً، ثم إنَّ مثل هذه الرِّواية منا ينفِّر من قبول الإسلام، إذا علم اليهود والنصارى كونه كذلك.
وقوله :﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ يعني : بالصَّوم ؛ لأنَّ الصَّوم وصلةٌ إلى التَّقوى ؛ لما فيه من قهر النَّفسِ، وكسر الشَّهوات، وقيل : لعلَّكم تحذرون عن الشَّهوات من الأكل، والشُّرب، والجماع، وقيل :" لعلَّكم تتَّقون " إهمالها، وترك المحافظة عليها، بسبب عظم درجتها، وقيل : لعلَّكم تكونون بسبب هذه العبادة في زمرة المتقين، لأن الصوم شعارهم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٥٠