الشَّهر، فليصم كلَّ الشهر، فعلى هذا : من شَهِدَ هِلاَل رمَضَان، فقد شهد جُزءاً من أجزاء الشَّهر، وعلى هذا التقدير، يستقيم معنى الآية، وليس فيه إلاَّ حَمُْ لفظ الكل على الجزء، وهو مجازٌ مشهور.
ولقائلٍ أن يقولك إنَّ الزجَّاج قال : إنَّ الشَّهْر اسمٌ للهلال نفسه ؛ كما تقدَّم عنه، وإذا كان كذلك، فقد زال كُلُّ ما ذكره من ارتكاب المجاز وغيره.
قال القرطبيُّ : وأعيد ذكر الشَّهر ؛ تعظيماً له ؛ كقوله ﴿الْحَاقَّةُ مَا الْحَآقَّةُ﴾ [الحاقة : ١ - ٢] ؛ وأنشد على أنَّه اسمٌ للهلا قول الشاعر :[الكامل] ٩٤٣ب - أَخَوَانِ مِنْ نَجْدٍ عَلَى ثِقَةٍ
وَالشِّهْرُ مِثْلُ قُلاَمَةِ الظُّفْرِ
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٧٣
حتَّى تكامل في اسْتِدَارَتِهِ
في أرْبَعٍ زَادَتْ عَلَى عَشْر
فصل روي عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّ من دخل عليه الشهر، وهو مقيمٌ ثم سافر فالواجب عليه الصَّوم، ولا يجوز له الفطر ؛ لأنه شهد الشهر.
وأما سائر الفُقَهَاء من الصَّحَابة وغيرهم، فقد ذهبوا إلى أنه إذا أنشأ السَّفَر في رمضان، جاز له الفطر، ويقولون : قوله ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾، وإن كان عامّاً يدخل فيه الحاضر والمسافر، إلاَّ أن قوله بعد ذلك :﴿فَمَنْ كَانَ مَرِيضاً، أوْ عَلَى سَفَرٍ، فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامُ أُخَرَ﴾ خاصٌّ، والخاصُّ مقدَّم على العامِّ.
ذهب أبو حنيفة - رضي الله عنه - إلى أنَّ المجنون، إذا أفاق في أثناء الشهر يلزمه قضاء ما مضى.
قال : لأنَّا دللنا على أنَّ الآية دلَّت على أنَّ من أدرك جزءاً من رمضان، لزمه صوم رمضان ؛ فيكون صوم ما تقدَّم منه واجباً ؛ فيجب قضاؤه فصل في كيفية شهود الشَّهْر شهود الشَّهر : إما بالرُّؤية أو بالسَّماع.
أما الرؤية : فنقول : إذا رأى إنسانٌ هلال رمضان وحده، فإما أن يرد الإما شهادته أولا ؛ فإن ردَّت شهادته، وجب عليه الصَّوم ؛ لأنَّه شهد الشَّهر، وإن قبل شهادته أو لم ينفرد بالرؤُية، فلا شك في وجوب الصَّوم.
٢٨٥
وأما السماع : فنقول : إذا شهد عدلا، على رسة الهلا، حكم به في الصَّوم والفطر جميعاً، وإذا شهد عدلٌ واحدٌ عللٌ واحدٌ على رؤية هلال شوَّال، لا يحكم به، وإذا شَهِدَ على رؤية هلال رمضان يحكم به ؛ احتياطاً لأمر الصَّوم، والفرق بينه وبين هلال شوَّال : أنَّ هلال رمضان للدُّخول في العبادة، وهلال شوالٍ للخروج من العبادة، وقول الواحد في إثبات العبادة يقبل، أما في الخروج من العبادة لا يقبل إلا اثنان.
قال ابن الخطيب وعندي : أنه لا فرق بينهما في الحقيقة، لأنا إنما قبلنا قول الواحد في هلال رمضان ؛ لكي يصوموا، ولا يفطروا ؛ احتياطاً ؛ فكذلك يقبل قول الواحد في هلال شوَّال ؛ لكي يفطروا ولا يصوموا احتياطاً.
فصل في حدِّ الصوم الصَّوم : هو الإمساك عن المفطرات مع العلم بكونه صائماً من أوَّل الفجر الصَّادق إلى غروب الشَّمس مع النِّيَّة.
فقولنا :" إمساك " هو الاحتراز عن شيئين : أحدهما : لو طارت ذبابةٌ إلى حلقه، أو وصل غبارُ الطريق إلى باطنه، لا يبطل صومه ؛ لأنَّ الاحتراز عنه شاقٌّ، وقد قال الله تعالى :﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾.
والثاني : لو صُبَّ الطعام أو الشراب في حلقه كرهاً، أو حال النوم - لا يبطل صومه، والإكراه لا ينافي الإمساك.
وقولنا " عَنِ المُفطرَاتِ " وهي ثلاثة : دخول داخلٍ، أو خروج خارجٍ، والجماعُ.
وحدُّ الدخول : كلُّ عينٍ وصل من الظَّاهر إلى الباطن من مَنفَذٍ مفتوح إلى الباطن، إما إلى الدماغُ، وإما إلى البطن وما فيها من الأمعاء والمثانة، أما الدِّماغ فيحصل الفطر بالسّعُوط، وأما البطن، فيحصل الفطر بالحقنة ؛ وأما الخروج، فالقيء [بالاختيار]، والاستمناء [يُبْطلانَ الصوم]، وأما الجماع فمبطلٌ للصَّوم بالإجماع.
وقولنا " مَعَ العِلْمِ بِكَوْنِهِ صَائِماً " فلو أكل أو شرب ناسياً، لم يبطُل صومه عند أبي حنيفة، والشَّافعيِّ، وأحمد، وعند مالك يبطُلُ.
وقولنا :" مِنْ أَوَّولِ طُلُوعِ الفَجْرِ الصَّادِقِ " ؛ لقوله تعالى :﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة : ١٨٧] وكلمة " حَتَّى " ؛ لانتهاء الغاية.
٢٨٦


الصفحة التالية
Icon