هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة : ١٨٥] فأمر العبد بالتَّكبير الذي هو الذِّكر وبالشكر، أعلم العبد أنه سبحانه بلُطفه ورحمته قريب من العبد مطلع على ذكره وشُكره، فيسمع نداءه ويجيبُ دعاءه.
الثاني : أنه أمره بالتَّكبير أولاً، ثم رغبه في الدعاء ثانياً تنبيهاً على أن الدعاء لا بُدَّ وأن يكون مسبُوقاً بالثناء الجميل ؛ ألا ترى أن الخليل - عليه السَّلام - لمَّا أراد الدعاء قَدَّم أولاً الثناء ؛ فقال :﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ [الشعراء : ٧٨] إلى قوله :﴿وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ [الشعراء : ٨٢] فلما فرغ من هذا الثناء، شرع في الدُّعاء، فقال :﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً﴾ [الشعراء : ٨٣] فكذا هاهنا.
الثالث : أنَّه لما فرض عليهم الصِّيام، كما فُرض على الذين من قبلهم ؛ وكانوا إذا ناموا، حرم عليهم ما حرم على الصَّائم، فشَقَّ ذلك على بعضهم ؛ حتَّى عصوا في ذلك التكليف، ثم نَدِمُوا وسألوا النبيَّ - ﷺ - عن توبتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة مُخبراً لهم بقبول توبتهم، وبنسخ ذلك التَّشديد ؛ بسب دعائهم وتضرُّعهم.
فصل في بيان سبب النزول ذُكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة وجوهٌ : أحدها : ما قدّمناه.
الثاني : قال ابن عبَّاس : إنَّ يهُود المدينة قالوا : يا محمَّد، كيف يسمع ربُّك دعاءنا، وأنت تزعم أنَّ بيننا وبينَ السَّماء مسيرة خمسمائة عامٍ، وأنَّ غِلَظَ كلِّ سماءٍ مثلُ ذلك ؟ فنزلت الآية الكريمة الثالث : قال الضَّحَّاك : إنَّ أعربيّاً سأل النبي - ﷺ - فقال : أرقيبٌ ربُّنا فنناجيه أم بعيدٌ فنناديه ؟ فأنزل الله تعالى الآية.
الرابع : أنه - عليه الصلاة والسلام - كان في غزاة خيبر، وقد رفع أصحابُهُ أصواتهُم بالتكبير والتَّهليل والدُّعاء، فقال رسُولُ الله - ﷺ اربعون على أنفسكم فإنَّما لا تدعون أصمّ ولا غائباً، إِنَّما تدعون سمعياً قريباً وهُو معكُم.
٢٩٣
الخامس : قال قتادةُ وغيره : إنَّ الصحابة قالوا : كيف ندعُو ربنا، يا رَسُول الله، فنزلت الآية.
السادس : قال عطاءٌ وغيره : إن الصحابة سألوا في أي ساعة ندعوا ربنا فأنزل الله الآية.
السابع : قال الحسن : سأل أصحابُ النبي - ﷺ - فقالوا : أين رَبُّنا ؟ فأنزل الله الآية.
فصل واعلم أنَّ المراد من الآية الكريمة ليس هو القُرب بالجهة ؛ لأنَّه تبارك وتعالى، لو كان في مكانٍ، لما كان قريباً من الكُلِّ، بل كان يكون قريباً من حملة العرش، وبعيداً غيرهم، ولكان إذا كان قريباً من زيدٍ الذي بالشَّرق، كان بعيداً من عمرو الذي بالمغرب، فلَمَّا دلَّت الآية الكريمة على كونه تعالى قريباً من الكُلِّ، علمنا أنَّ القرب المذكُور في الآية الكريمة ليس قرباً بجهة، فثبت أن المراد منه أنهقريبٌ بمعنى أنه يسمع دعاءهم.
والمرادُ من هذا القُرب العلمُ والحفظُ ؛ على ما قال :﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد : ٤] وقال ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق : ١٦] وقال تعالى :﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ [المجادلة : ٧] ونظيره : وهو بينكُمْ وبَيْنَ أعناق رواحلكم.
قال ابن الخطيب : وإذا عرف هذا فنقُول : لا يبعدُ أن يقال : إنه كان في بعض أولئك الحاضرين من كان قائلاً بالتَّشبيه، فقد كان من مشركي العرب، وفي اليهود وغيرهم من هذه طريقته، فإذا سألوه - عليه الصلاة والسلام - أين ربُّنا ؟ صحَّ أن يكون الجوابُ : فإنِّي قريبٌ، فإنَّ القريبَ مِنَ المتكلَّم يسمعُ كلامَهُ، وإن سألوه كيف يدعُون ؛ برفع الصَّوت أو بإخفائه ؟ صحَّ أن يجيبَ بقوله :" فإِنِّي قَرِيبٌ "، وإن سألوه أنه هل يعطينا مطلوبنا بالدُّعاء ؟ صحَّ هذا الجوابُ، وإن سألوه : إنا إذا أذنبنا ثم تُبنا، فهل يقبلُ الله توبتَنَا ؟ صحَّ أن يجيبَ بقوله " فَإِنِّي قَرِيبٌ " أي : فأنا القريبُ بالنظر إليهم، والتجاوز عنهم، وقبُول التَّوبة منهم ؛ فثبت أنَّ هذا الجواب مطابقٌ للسُّؤَالِ على كُلِّ تقدير.
قوله تعالى :" أُجِيبُ " فيها وجهان : أحدهما : أنها جملةٌ في محلِّ رفع صفةً لـ " قَريبٌ ".
والثاني : أنها خبرٌ ثانٍ لـ " إنِّي " ؛ لأنَّ " قَرِيبٌ " خبرٌ أوَّلُ.
٢٩٤
ولا بُدَّ من إضمارِ قولٍ بعد فاء الجزاء، تقديرُه : فَقُلْ لهم إِنِّ قريبٌ، وإنما احتَجْنَا إلى هذا التقدير ؛ لأنَّ المرتِّب على الشَّرط الإخبارُ بالقُرب، وجاء قوله " أُجِيبُ " ؛ مراعاةً للضمير السابقِ على الخبر، ولم يُراعَ الخبرُ، فيقالُ :" يُجِيبُ " بالغَيْبَة ؛ مراعاةً لقوله :" قَرِيبٌ " ؛ لأنَّ الأشْهَرَ من طريقتي العرب هو الأولُ ؛ كقوله تعالى :﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [النمل : ٥٥] وفي أخرى ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ [النمل : ٤٧]، وقول الشاعر :[الطويل] ٩٤٨ - وَإِنَّا لَقَوْمٌ مَا نَرَى الْقَتْلَ سُبَّةً
إِذَا مَا رَأَتْهُ عَامِرٌ وسَلُولُ