أحدهما : أن يكونّ من باب الإضمار ؛ لفَهْمِ المعنى، أي أَحَلَّ اللَّهُ ؛ لأنَّ من المعلومِ أنه هو المُحَلِّلُ والمحرِّم.
والثاني : أن يكونَ الضميرُ عائداً على ما عاد عليه من قوله :﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي﴾ وهو المتكلِّم، ويكونُ ذلك التفاتاً، وكذلك في قوله :" لَكُمْ " التفاتٌ من ضمير الغَيْبة في :" فَلْيَسْتَجِيبُوا، وَلْيُؤْمِنُوا "، وعُدِّي " الرَّفث " بـ " إِلَى "، وإنما يتعدَّى بالباء ؛ لما ضُمِّن مِنْ معنى الإفضاء مِنْ قوله ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ [النساء : ٢١] كأنه قيل : أُحِلَّ لَكُمْ الإفْضَاءُ إلى نسائِكُمْ بِالرَّفَثِ.
قال الواحديّ : أراد بليلة الصِّيام ليالي الصِّيام، فأوقَعَ الواحد موقع الجماعة ؛ ومنه قولُ العبَّاس بن مرداسٍ :[الوافر] ٩٥١ - فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمْ
فَقَدْ بَرِئَتْ مِنَ الإِحَنِ الصُّدُورُ
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٠٢
قال ابن الخطيب : وأقولُ : فيه وجهٌ آخرُ، وهو أنَّه ليس المراد من " لَيْلَةَ الصِّيَامِ " ليلةً واحدةً، بل المراد الإشارةُ إلى اللِّيلة المضافة إلى هذه الحقيقة.
وقرأ عبد الله " الرَّفُوثُ " قال اللَّيْث وأصل الرَّفث قول الفحش، والرَّفثُ لغةً مصدرُ : رَفَثَ يَرْفِثُ بكسر الفاء وضمها، إذا تكلم بالفُحشِ، وأرْفَثَ أَتَى بالرَّفثِ ؛ قال العجاج :[الرجز] ٩٥٢ - وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ
عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّم
وقال الزَّجَّاج :- ويُروى عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما - " إِنَّ الرَّفثَ كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يريدُه الرجُلُ من المَرْأَةِ "، وقيل : الرَّفث : الجِمَاعُ نفسُهُ، وأنشد :[الكامل] ٩٥٣ - وَيُرَيْنَ مِنْ أَنَسِ الْحَدِيثِ زَوَانِياً
وَلَهُنَّ عَنْ رَفَثِ الرِّجَالِ نِفَارُ
وقول الآخر :[المتقارب] ٩٥٤ - فَظِلْنَا هَنَالِكَ فِي نِعْمَةٍ
وَكُلِّ اللَّذَاذَةِ غَيْرَ الرَّفَثْ
ولا دليل ؛ لاحتمالِ إرادة مقدِّمات الجماع ؛ كالمداعَبَةِ والقُبْلَة، وأنشد ابنُ عبَّاسٍ، وهو مُحْرِمٌ :[الرجز]
٣٠٣
٩٥٥ - وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَاهَمِيسَا
إِنْ يَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا
فقيل له : رَفَثْتَن فقال : إنَّما الرَّفَثُ عند النساء.
فثبت أنَّ الأصل في الرَّفَثِ هو قول الفحش، ثم جعل ذلك اسماً لما يتكلَّم به عند النِّسَاء من معاني الإفضاء، ثم جعل كنايةً عن الجماع، وعن توابعه.
فإن قيل : لِمَ كَنَّى هاهنا عن الجماع بلفظ " الرَّفَث " الدَّالِّ على معنى القبح بخلاف قوله ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ [النساء : ٢١] وقوله تعالى :﴿فَلَماَّ تَغَشَّاهَا﴾ [الأعراف : ١٨٩]، وقوله عزَّ وجلَّ :﴿أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ﴾ [النساء : ٤٣] وقوله عز وجل :﴿فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ [النساء : ٢٣]، وقوله عزَّ وجلَّ :﴿فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ﴾ [البقرة : ٢٣٧] وقوله تعالى :﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ﴾ [النساء : ٢٤] ﴿وَلاَ تَقْرَبُوهَنَّ﴾ [البقرة : ٢٢٢].
فالجواب : أنَّ السبب فيه استهجان ما وجد منهم قبل الإجابة ؛ كما سمَّاه اختياناً لأنفسهم ؛ قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - إنَّ الله سبحانه وتعالى حَيِيٌّ كريمٌ يُكَنِّي، كُلُّ ما ذكر في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء والدُّخول والرَّفث، فإنما عنى به الجماع.
فصل في بيان سبب النزول ذكروا في سبب نزول هذه الآية : أنه كان في أوَّل الشَّريعة يحلُّ الأكل والشُّرب والجِماع ليلة الصِّيامن ما لم يرقُدِ الرجل ويصلِّي العشاء الأخيرة، فإن فعل أحدهما : حرم عليه هذه الأشياء إلى اللَّيلة الآتية، فجاء رجُلٌ من الأنصار عشيَّةً، وقد أجهده الصَّوم، واختلفوا في اسمه ؛ فقال معاذٌ : اسمه أبو صرمة بن قيس بن صرمة، وقال عكرمة : أبو قيس بن صرمة، وقيل صرمة بن أنس.
فسأله النبيُّ ﷺ وشرَّف وكرَّم وبجَّل وعظَّم عن سبب ضَعْفِهِ، فقال : يا رسول الله، عملت في النَّخل نهاري أَجْمَعَ : حتَّى أَمْسَيْتُ، فَأَتَيْتُ أَهْلِي لتطعمني شَيْئاً، فَأَبْطَأتْ، فنمت فَأَيْقَظُونِي، وَقَدْ حَرُمَ الأَكْلُ ؛ فَقَامَ عُمَرُ - رضي الله عنه - فقال : يا رسول الله أنِّيأعتذر إلى الله وإليك من نفس هذه الخاطية ؛ إنِّي رجعت إلى أهلي بعد ما صلِّيت العشاء، فوجدت رائحةً طيِّبةً فسوَّلت لي نفس، فجامعت أهلي، فقال النَّبيُّ ﷺ وشرَّف،
٣٠٤