والكلام على قوله :﴿أَلا اا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَـاكِن لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ كالكلام على قوله :﴿أَلا اا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة : ١٢].
وقرأ أهل " الشام " و " الكوفة " " السّفهاء أَلاَ " بتحقيق الهمزتين، وكذلك كل همزتين وقعتا في كلمتين اتفقتا أو اختلفتا، والآخرون يحققون الأولى، ويليّنون الثانية والمختلفتين طلباً للخفّة فإن كانتا متّفقتين مثل :﴿هَـاؤُلا ااءِ إِن﴾ [البقرة : ٣١]، و ﴿أَوْلِيَآءُ أُوْلَـائِكَ﴾ [الأحقاف : ٣٢]، و ﴿جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ [هود : ١٠١] قرأها أبو عمرو والبزي عن ابن كثير بهمزة واحدةٍ.
وقرأ أبو جعفر، وورش، ويعقوب : بِتَحْقِيق الأولى وتَلْيين الثانية.
وقرأ قَالُون : بتليين الأولى، وتحقيق الثانية، لأن مت يستأنف أولى بالهمزة ممّا يسكت عليه.
فصل في نظم الآية إنما قال هناك :" ولكن لا يشعرون "، وقال ها هنا :" ولكن لا يعلمون " لوجهين : أحدهما : أن المثبت لهم - هناك - الإفساد، وهو مما يدرك بأدنى تأمّل، لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فِكْرٍ كثير، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر، وهي الحواسّ مبالغة في تجهيلهم، وهو أنَّ الشعور الذي قد ثبت للبهائم مَنْفِيّ عنهم، والمثبت - هنا - هو السَّفه والمصدر به هو الأمر بالإيمان، وذلك مما يحتاج إلى إمْعَان فكرٍ ونَظَرٍ، فإنه مُفْضٍ إلى الإيمان والتصديق، ولم يقع منهم المأمور به وهو الإيمان، فناسب ذلك نفي العلم عنهم.
الوجه الثاني : أن السَّفه خفّة العقل والجَهْل بالأمور ؛ قال :[السريع] ٢٠٩ - نَخَافُ أنْ تَسْفَهَ أحْلاَمُنَا
فَنَجْهَلَ الجَهْلَ مَعَ الجَاهِلِ
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٥٤
والعلم نقيض الجَهْل فقابله بقوله :﴿لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة : ١٣] ؛ لأن عدم العلم بالشيء جهل به.
٣٥٨
فصل في تعلق الآية بما قبلها قال ابن الخطيب : لما نهاهم في الآية الأولى عن الفساد في الأرض، ثم أمرهم في هذه الآية بالإيمان دلّ على أن كمال الإنسان لا يحصل إلا بمجموع الأمرين، وهو تركه ما لا يَنْبَغِي، وفعل ما ينبغي.
وقوله :﴿آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ النَّاسُ﴾ أي : إيماناً مقروناً بالإخلاص بعيداً عن النفاق.
ولقائل أن يستدلّ بهذه الآية على أنّ مجرد الإقرار إيمان، فإنه لو لم يَكُنْ إيماناً لما تحقّق مُسَمّى الإيمان إلاَّ إذا حصل بالإخلاص، فكان قوله :" آمنوا " كافياً في تحصل المطلوب، وكان ذكر قوله :﴿كَمَآ آمَنَ النَّاسُ﴾ لغواً.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٥٤
" إذا " منصوب بـ " قالوا " الذي هو جواب لها، وقد تقدّم الخلاف في ذلك، و " لقوا " فعل وفاعل، الجملة في محلّ خفض بإضافة الظّرف إليها.
وأصل " لقوا " : لقيوا بوزن " شربوا " فاستثقلت الضمة على " الياء " التي هي " لام " الكلمة، فحذفت الضمة فالتقى ساكنان : لام الكلمة وواو الجمع، ولا يمكن تحريك أحدهما، فحذف الأول وهو " الياء "، وقلبت الكسرة التي على القاف ضمّة ؛ لتجانِسَ واو الضمير، فوزن " لَقُوا " :" فَعُوا "، وهذه قاعدة مطّردة نحو :" خشوا "، و " حيوا ".
وقد سمع في مصدر " لقي " أربعة عشر وزناً :" لُقْيَاً وَلِقْيَةً " بكسر الفاء وسكون العَيْن، و " لقاء ولقاءة " بفتحها أيضاً مع المَدّ في الثلاثة، و " لَقَى " بفتح الفاء وضمّها، و " لُقْيَا " بضم الفاء، وسكون العين و " لِقِيَّا " بكسرها والتشديد و " لُقِيَّا " بضم الفاء، وكسر العَيْنِ مع التشديد، و " لُقْيَاناً وَلِقْيَاناً " بضم الفاء وكسرها، و " لِقْيَانَةً " بكسر الفاء خاصّة، و " تِلْقَاء ".
وقراءة أبو حنيفة - رحمه الله - :" وَإِذّا لاَقُوا ".
و " الَّذِينَ آمَنُوا " مفعول به، و " قالوا " جواب " إذا "، و " آمَنَّا " في محل نصب بالقول.
قال ابن الخطيب :" والمراد بقولهم :" آمنا " : أخلصنا بالقلب ؛ لأن الإقرار باللسان كان معلوماً منهم مما كانوا يحتاجون إلى بَيَانِهِ، إنما المشكوك فيه هو الإخلاص بالقلب، وأيضاً فيجب أن يحمل على نقيض ما كانوا يظهرونه لشياطينهم، وإنما كانوا يظهرون لهم التَّكذيب بالقلب ".
٣٥٩


الصفحة التالية
Icon