وأصل المدد الزيادة.
وقال الزمخشري : فإن قلت : لم زعمت أنه من المَدَد دون المَدّ في العُمُر والإمْلاء والإمْهَال ؟ قلت : كفاك دليلاً على لك قراءة ابن كثير، وابن محيصن :" ويمدهم " وقراءة نافع :﴿وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ﴾ [الأعراف : ٢٠٢] على أنَّ الذي بمعنى أَمْهَلَ إنما هو مَدّ له بـ " اللام " كأملى له.
والاستهزاء لغةً : السخرية واللّعب ؛ يُقَال : هَزِئَ به، واستهزأ، قال :[الرجز] ٢١٢ - قَدْ هَزِئَتْ مِنِّي أُمُّ طَيْسَلَهْ
قالَت : أَرَاهُ مُعْدِماً لاَ مَالَ لَهْ
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٥٩
وقيل : أصله الانتقام ؛ وأنشد :[الطويل] ٢١٣ - قَدِ اسْتَهْزَؤُوا مِنْهُمْ بِأَلْفَيْ مُدَجَّجِ
سَرَاتُهُمُ وَسْطَ الصَّحَاصِحِ جُثَّمُ
فعلى هذا القول الثَّاني نسبة الاستهزاء إليه - تعالى - على ظاهرها.
وأما على القول الأول فلا بد من تأويل وهو من وجوه : الأول : قيل : المعنى : يجازيهم على استهزائهم فسمى العقوبة باسم الذَّنب ليزدوج الكَلاَم، ومنه :﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ﴾ [الشورى : ٤٠]، ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ﴾ [البقرة : ١٩٤].
وقال :﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء : ١٤٢]، ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ [آل : عمران : ٥٤].
وقال عليه الصلاة والسلام :" اللَّهُمَّ إنّ فلاناً هَجَاني، وهو بعلم أني لَسْتُ بِشَاعِرٍ، اللّهم فاهجُهُ، اللهم فالْعَنْهُ عَدَدَ ما هَجَانِي " ؛ وقال عليه الصلاة والسَّلام :" تَكَلَّفُوا من الأَعْمَالِ ما تُطِيقونَ فإنَّ الله لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا " ؛ وقال عمرو بن كلثوم :[الوافر]
٣٦٤
٢١٤ - أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنا
فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا
وثانيها : أنَّ ضرر استهزائهم بالمُؤْمنين راجعٌ إليهم، وغير ضَارّ بالمؤمنين، فيصير كأن الله استهزأ بهم.
وثالثها : أنّ من آثار الاستهزاء حُصُول الهَوَان والحَقارة، فذكر الاستهزاء، والمراد حُصُول الهَوَان لهم فعبّر بالسَّبب عن المُسَبِّب.
ورابعها : أنَّ استهزاء الله بهم أن يظهر لهم من أَحْكَامِهِ في الدُّنْيا ما لهم عند اللهِ خلافها في الآخرة، كما أنهم أَظْهَرُوا [للنَّبي و] المؤمنين أمراً مع أنَّ الحاصل منهم في السر خلافه، وهذا ضعيف ؛ لأنه - تعالى - لما أظهر لهم أحكام الدُّنيا، فقد أظهر الأدلّة الواضحة بما يعاملون به في الدَّار الآخرة، فليس في ذلك مخالفة لما أظهره في الدنيا.
وخامسها : أن الله - تعالى - يُعَاملهم مُعَاملة المُسْتَهْزِئِ في الدُّنيا والآخرة، أما في الدنيا، فلأنه أطلع الرسول على أَسْرَارِهِمْ لِمُبَالغتهم في لإخْفَائِها، وأمّا في الآخرة فقال ابنُ عَبَّاس : هو أن يفتح لهم باباً من الجنة، فإذا رأوه المُنافقون خرجوا من الجَحِيمِ متوجّهين إلى الجنة، فإذا وصلوا إلى باب الجنة، فهناك يغلق دونهم الباب، فذلك قوله تعالى :﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾ [المطففين : ٣٤] وقيل : هو أن يُضْرَبَ للمؤمنين نورٌ يَمْشون به على صراط، فإذا وصل المنافقون إليه حِيَلَ بينهم وبينه، كما قالَ تَعَالَى :﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ﴾ [الحديد : ١٣] الآية.
فإن قيل : هلا قيل : إن الله يستهزئ بهم ليكون مطابقاً لقوله :﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة : ١٤] ؟
٣٦٥