اعلم أن المقصود من ضرب المِثَالِ أنه يؤثر في القَلْبِ ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، وذلك لأن الغرض من المَثَلِ تشبيه الخَفِيّ بالجَلِيّ والغائب بالشاهد، فيتأكّد الوقوف على ماهيته، ويصير الحس مطابقاً للعقل، وذلك هو النهاية في الإيضاح في الترغيب في الإيمان لذا مثل بالظّلمة، فإذا أخبرت عن ضعف أمر ومثّلته بِنَسْجِ العنكبوت كان ذلك أبلغ في وقعه في القلب بالخبر مجرداً.
قوله :" مثلهم " مبتدأ و " كمثل " جار ومجرور خبره، فيتعلّق بمحذوف على قاعدة الباب، ولا مُبَالاة بخلاف من يقول : إنّ " كاف " التشبيه لا تتعلّق بشيء، والتقدير : مثلهم مستقر كَمَثَلِ.
وأجاز أبو البقاء وابن عطية أن تكون " الكاف " اسماً هي الخبر، ونظيره قول الشاعر :[البسيط].
٢٢٠ - أَتَنْتَهُونَ ؟ وَلَنْ يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ
كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فيهِ الزَّيْتُ والفُتُلُ
وهذا مذهب الأخفش : يجيز أن تكون " الكاف " اسماً مطلقاً.
وأما مذهل سيبويه فلا يُجِيزُ ذلك إلا في شعر، وأمّا تنظيره بالبيت فليس كما قال ؛ لأنّ في البيت نضطر إلى جعلها اسماً لكونها فاعلة، بخلاف الآية.
٣٧٠
والذي ينبغي أن يقال : إن " كاف " التشبيه لها ثلاثة أحوال : حال يتعيّن فيها أن تكون اسماً، وهي ما إذا كانت فاعلة، أو مجرورة بحرف، أو إضافة.
مثال الفاعل :[البسيط] ٢٢١ - أَتَنْتَهونَ وَلَنْ يَنْهَى..........
.......................
البيت.
ومثال جَرِّها بحرف قول امرئ القَيْسِ :[الطويل] ٢٢٢ - وَرُحْنَا بكَابْنِ المَاءِ يُجْنَبُ وَسْطَنَا
تَصَوَّبُ فِيهِ العَيْنُ طَوْراً وَتَرْتَقِي
وقوله :[الوافر] ٢٢٣ - وَزَعْتُ بِكَالْهِرَاوَةِ أَعْوَجِيِّ
إذَا وَنَتِ الرُّكَابُ جَرَى وَثابَا
ومثال جَرِّها بالإضافة قوله :[السريع أو الرجز]
٢٢٤ - فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ
وحال يتعيّن أن تكون فيها حرفاً، وهي الواقعة صلة، نحو : جاء الذي كزيد ؛ لأن جعلها اسما يستلزم حذف عائد مبتدأ من غير طول الصِّلة، وهذا ممتنع عند البصريين.
وحال يجوز فيها الأمران، وهي ما عدا ذلك نحو :" زيد كعمرو ".
وأبعد من جعلها زائدة في الآية الكريمة، أي : مثلهم مثل الذي، ونظّره بقوله :" ونظّره يقوله :" فَصُيِّرُوا مثل كعصف " كأنه جعل المثل والمثل بمعنى واحد، والوجه أن المثل - هنا - بمعنى القصّة والتقدير : صفتهم وقصتهم كقصّة المستوقد، فليست زائدةً على هذا
٣٧١
التأويل، وهذا جواب عن سؤال أيضاً، وهو أن يقال : قوله تعالى :﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ﴾ يقتضي تشبيه مثلهم مثل المستوقد، فما مثل المنافقين ومثل المُسْتَوْقِدِ حتّى شّبّه أحدهما بالآخر ؟ فالجواب : أن يقال : استعير المثل للقصّة وللصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة، كأنه قيل : قصتّهم العجيبةُ كقصّة الذي استوقد ناراً، وكذا قوله :﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ [الرعد : ٣٥] أي فيما قصصنا عليه من العَجَائب قصّة الجنّة العجيبة.
﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى ﴾ [النحل : ٦٠] أي : الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة.
﴿مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾ [الفتح : ٢٩] أي : وصفهم وشأنهم المتعجّب منه، ولكن المَثَل - بالفتح - ولذلك حوفظ في لفظه فلم يغير.
و " الذي " : في محلّ خفض بالإضافة، وهو موصول للمفرد المذكّر، ولكن المراد به - هنا - جمع ولذلك روعي مّعٍنَاه في قوله :﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ فأعاد الضمير عليه جمعاً، والأولى أن يقال : إنَّ " الذي " وقع وصفاً لشيء يفهم الجمع، ثم حذف ذلك الموصوف للدّلالة عليه.
والتقدير : ومثلهم كمثل الفريق الذي استوقد، او الجمع الذي اسْتَوْقَدَ ؛ ويكون قد روعي الوصف مرة، فعاد الضمير عليه مفرداً في قوله :﴿اسْتَوْقَدَ نَاراً﴾ و " حوله "، والموصوف أخرى فعاد الضمير عليه مجموعاً في قوله :" بنورهم "، و " تركهم ".
وقيل : إنَّ المنافقين ذاتهم لم يشبهوا بذات المُسْتوقد، وإنما شبهت قصّتهم بقصّة المستوقد، ومثله قوله :﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ﴾ [الجمعة : ٥]، وقوله :﴿يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ [محمد : ٢٠].
وقيل : المعنى : ومثل كل واحد منهم كقوله :﴿يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً﴾ [غافر : ٦٧] أي : يخرج كلّ واحد منكم.
ووهم أبو البقاء، فجعل هذه الآية من باب ما حذفت منه النُّون تخفيفاً، وأنّ الأصْل :" الذين " ثم خففت بالحذف، وكأنه مثل قوله تعالى :﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ااْ﴾ [التوبة : ٦٩]، وقول الشاعر :[الطويل].
٢٢٥ - وَإِنَّ الَّذي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ
هُمُ القَمْمُ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمُّ خَالِدِ
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٧٠
والأصل :" كالذين خَاضُوا " " وإنَّ الذين حانت ".
وهذا وَهْم ؛ لأنه لو كان من باب
٣٧٢