فَقَدْ تَرَكْتَكَ ذَا مالٍ وَذَا نَشَبِ
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٧٠
٣٧٨
فإن قلنا : هو متعدّ لاثنين كان المفعول الأول هو الضمير، والمفعول الثاني :" في ظلمات " و " لا يبصرون " حال، وهي حال مؤكدة ؛ لأن من كان في ظلمة فهو لا يُبْصِرُ.
وصاحب الحال : إما الضمير المنصوب، أو المرفوع المُسْتَكِنّ في الجار والمجرور.
ولا يجوز أن يكون " في ظلمات " حالاً و " لا يبصرون " هو المفعول الثاني ؛ لأن المفعول الثاني خبر في الأصل، والخبر لا يؤتى به للتأكيد، فإذا جعلت " في ظلمات " حالاً فهم من عدم الإبصار، فلو يفد قولك بعد ذلك :" لا يبصرون " إى التَّأكسد، لكن التأكيد ليس من شَاْنِ الأخبار، بل من شأن الأحوال ؛ لأنها فضلات.
ويؤيّد ما ذكرت أن النحويين لما أعربوا قول امرئ القيس :[الطويل] ٢٣٦ - إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ
بِشِقِّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوِّلِ
أعربوا :" شقّ " مبتدأ و " عندنا " خبره، و " لم يُحَوَّلِ " خبراً، و " عندنا " صفة لـ " شق " مُسَوِّغاً للابتداء به قالوا : لأنه فهم معناه من قوله :" عندنا " ؛ لأنه إذا كان عنده عُلِمَ منه أنه لم يُحَوَّل.
وقد أعربه أبو البَقَاءِ كذلك، وهو مردود بما ذكرت.
ويجوز إذا جعلنا " لا يبصرون " هو المفعول الثاني أن يتعلّق " في ظُلُمَاتٍ " به، أو بـ " تركهم "، التقدير :" وتركهم لا يبصرون في ظلمات ".
وإن كان " ترك " متعدياً لواحد كان " في ظُلُمَاتٍ " متعلّقاً بـ " تركهم "، و " لا يبصرون " حال مؤكّدة، ويجوز أن يكون " في ظُلُمَاتٍ " حالاً من الضَّمير المنصوب في " تركهم "، فيتعلّق بمحذوف، و " لا يبصرون "
٣٧٩
حال أيضاً، إما من الضمير في تركهم، فيكون له حالان، ويجري فيه الخلاف المتقدّم، وإما من الضمير المرفوع المستكنّ في الجار والمجرور قبله، فتكون حالين متداخلتين.
فصل في سبب حذف المفعول فإن قيل : لم حذف المفعول من " يبصرون " ؟ فالجواب : أنه من قبيل المَتْرُوك الذي لا يلتفت إلى إخطاره بِالبَالِ، لا من قبيل المقدّر المَنْوِيّ كأنّ الفعل غير متعدٍّ أصلاً.
قال ابن الخطيب : ما وجه التمثيل في أعطي نوراً، ثم سلب ذلك النور، مع أنّ المنافق ليس هو نور، وأيضاً أن من استوقد ناراً فأضاءت قليلاً، فقد انتفع بها وبنورها ثم حرم، والمنافقون لا انتفاع لهم ألبتة بالإيمان، وأيضاً مستوقد النًَّار قد اكتسب لنفسه النور، والله - تعالى - ذهب بنوره، وتركه في الظُّلمات، والمنافق لم يكتسب خيراً، وما حصل له من الحيرة، فقد أتي فيه من قبل نفسه، فما وجه التَّشبيه ؟ والجواب : أنَّ العلماء ذكروا في كيفية التَّشبيه وجوهاً : أحدها : قال السّدي : إن ناساً دخلوا في الإسلام عند وصوله - عليه الصلاة والسلام - إلى " المدينة " ثم إنهم نافقوا، والتشبيه - ها هنا - في غاية الصحة ؛ لأنهم بإيمانهم أولاً اكتسبوا نوراً، ثم ينافقهم ثانياً أبطلوا ذلك النور، ووقعوا في حيرة من الدنيا، وأما المتحيّر في الدِّين، فإنه يخسر نفسه في الآخرة أبَد الآبدين.
وثانيها : إن لم يصحّ ما قاله السّدي بل كانوا مُنَافقين من أول الأمر، فها هنا تأويل آخر.
قال ابن عباس : وقتادة، ومقاتل، والضحاك، والسدي، والحسن : نزلت في المُنافقين يقول : مَثَلُهُمْ في نِفاقِهِم كَمَثَلِ رجل أوقد ناراً في ليلة مظلمة في مَغَارةٍ، فاستدفأ، ورأى ما حوله فاتَّقَى مما يخاف، فَبَيْنَا هو كذلك إذْ طُفِئَتْ ناره، فبقي في ظلمة خائفا متحيراً، فكذلك المنافقون بإظهارهم كلمة الإيمان أمنوا على أموالهم، وأولادهم، وناكحوا المؤمنين، وأورثوهم، وقاسموهم الغَنَائم، وسائر أحكام المسلمين، فذلك نورهم، فإذَا ماتوا عادوا إلى الظُّلْمَةِ والخوف، ولما كان ذلك بالإضافة إلى العذاب الدَّائم مثل الذّرة، شبههم بمستوقد النّار الذي انتفع بضوئها قليلاً، ثم سلب ذلك، فدامت حسرته وحيرته للظُّلمة العَظِيمةِ التي جاءته عقيب النُّور اليسير.
٣٨٠