أحدها : أنه حالٌ، وفيه وجهان : أحدهما : هو حال من الضمير المنصوب في " تركهم ".
والثاني : من المرفوع في " لا يُبًصِرُون ".
الثاني : النَّصْب على الذَّم كقوله :﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ [المسد : ٤] وقول الآخر : ٢٣٨ - سَقَوْنِي الخَمْرَ ثُمَّ تَكَنَّفُونِي
عُداةَ اللهِ مِنْ كَذِبٍ وزُورِ
أي : أذمُ عُداة الله.
الثالث : أن يكون منصوباً بـ " ترك "، أي : صمَّا بكماً عمياً.
والصّمم : داء يمنع من السَّمَاع، وأصله من الصَّلابة، يقال : قناة صَمّاء : أي : صلبة.
وقيل : أصله من الانسداد، ومنه : صممت القَارُورَة أي : سددتها.
والبَكَمُ : داءٌ يمنع الكلام.
وقيل : هو عدم الفَهْمِ.
وقيل : الأبكم من وُلِدً أَخْرَسَ.
وقوله :" فهم لا يرجعون " جملة خبرية معطوفة على الجملة الخبرية قبلها.
وقيل : بل الأولى دعاء عليهم بالصَّمم، ولا حاجة إلى ذلك.
وقال أبو البقاء : وقيل : فهم لا يرجعون حال، وهو خطأ ؛ لأن " الفاء " ترتب، والأحوال لا ترتيب فيها.
و " رجع " يكون قاصراً ومتعدياً باعتبارين، وهذيل تقول :: أرجعه غيره "، فإذا كان بمعنى " عاد " كان لازماً، وإذا كان بمعنى " أعاد " كان متعدياً، والآية الكريمة تحتمل التَّقديرين، فإن جعلناه متعدياً، فالمفعول محذوف، تقديره لا يرجعون جواباً، مثل قوله :﴿إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾ [الطارق : ٨]، وزعم بعضهم أنه يضمَّن معنى " صار "، فيرفع الاسم، وينصب الخبر، وجعل منه قوله عليه الصلاة والسلام :" لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفّاراً يَضْرِب بَعْضُكُم رِقابَ بَعْضٍ ".
٣٨٣
ومن منع جريانه مجرى " صار " جعل المنصوب حالاً.
فصل في المراد بنفي السمع والبصر عنهم.
لما كان المعلوم من حالهم أنهم كانوا يسمعون، وينطقون، ويبصرون امتنع حمل ذلك على الحقيقة فلم يَبْقَ إلاّ تشبيه حالهم لشدة تمسُّكهم بالعناد، وإعراضهم عن سماع القرآن، وما يظهره الرسول من الأدلة والآيات بمن هو أصمّ في الحقيقة فلا يسمع، وإذا لم يسمع لم يتمكّن من الجواب، فلذلك جعله بمنزلة الأَبْكَمِ، وإذا لم ينتفع بالأدلّة، ولم يبصر طريق الرشد، فهو لمنزلة الأعمى.
وقوله :﴿فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ أي : من التمسُّك بالنفاق فهم مستمرون على نفاقهم أبداً.
وقيل : لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه، او عن الضَّلالة بعد أن اشتروها.
وقيل : أراد أنّهم بمنزلة المتحيّرين الّضين بقوا خامدين في مَكَانِهِمْ لا يبرحون، ولا يدرون أيتقدّمون أم يتأخرّون ؟ وكيف يرجعون إلى حيث ابتدءوا منه ؟
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٨٢
اعلم أنّ هذا مثل ثانٍ للمنافقين، وكيفية المشابهة من وجوه : أحدها : أنه إذا حصل السحاب والرعد والبرق، واجتمع مع ظلمة السّحاب ظلمة الليل، وظلمة المَطَرِ عند ورود الصواعق عليهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصَّوَاعق حَذَرَ الموت، وأن البرق يكاد يخطف أبصارهم، فإذا أضاء لهم مَشَوْا فيه، وإذا ذهب بَقَول في ظلمة عظيمة، فوقفوا متحيّرين ؛ لأنّ من أصابه البرق في هذه الظلمات الثلاث ثم ذَهَبَ عنه
٣٨٤