٢٥٨ - قَدْ كَادَ مِنْ طُولِ البِلَى أَنْ يَمْحَصَا
لأنها لمقاربة الفعل، و " أَنْ " تخلص للاستقبال، فتنافيا.
واعلم أن خبرها - إذا كانت هي مثبتة - منفيٌّ في المعنَى، لأنها للمقاربة.
فإذا قلت :" كَادَ زَيْدٌ يَفْعَلُ " كان معناه : قارب الفعل إلاّ أنه لم يفعل، فإذا نُفِيَتِ، انتفى خبرها بطريق الأولَى ؛ لأنه إذا انتفت مقاربة الفعل انتفى هو من باب أوبى ؛ ولهذا كان قوله تعالى :﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ [النور : ٤٠] أبلغ من أن لو قيل : لَمْ يَرَهَا، لأنه لم يقارب الرُّؤْيَة، فكيف له بها ؟ وزعم جماعة منهم ابن جِنِّي، وأبو البَقَاءِ، وابن عطية أن نفيها إثبات، وإثباتها نفي ؛ حتى ألغز بعضُهُمْ فيها ؛ فقال :[الطويل] ٢٥٩ - أَنحويَّ هَذَا العَصْرِ مَا هِيَ لَفظةٌ
جَرَتْ في لِسَانَيْ جُرْهُمٍ وَثَمُودِ
إِذَا نُفِيتْ - والله أَعْلَمُ - أُثْبِتَتْ
وَإِنْ أُثْبِتَتْ قَامَتْ مَقَامَ جُحُودِ
وحكوا عن ذي الرَّمَّة أنه لما أنشد قولَهُ :[الطويل] ٢٦٠ - إذا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ
رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
عيب عليه ؛ لأنه قال :" لم يكد يَبْرَحُ "، فيكون قد بَرِحَ، فغيَّره إلى قوله :" لَمْ يَزَلْ " أو ما هو بمعناه.
٣٩٥
والذي غرَّ هؤلاء قوله تعالى :﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة : ٧١] قالوا :" فهي هنا منفية " وخبرها مثبت في المعنى ؛ لأن الذبح وقع لقوله :" فَذَبَحُوهَا "، والجواب عن هذه الآية من وجهين : أحدهما : أنه يحمل على اختلاف وقتين، أي : ذبحوها في وقت، وما كادوا يفعلون في وقت آخر.
والثاني : أنه عبّر بنفي مُقَاربة الفعل عن شدَّة تعنُّتهم، وعسرهم في الفعل.
وأما ما حكَوْهُ عن ذي الرُّمَّة، فقد غلَّط الجمهورُ ذا الرمَّة في رجوعِهِ عن قوله الأوَّل، وقالوا :" هو أبلغُ وأحْسَنُ مما [غيَّره إليه].
واعلم أن خبر " كاد " وأخواتها - غير " عَسَى " - لا يكون فاعله إلاّ ضميراً عائداً على اسمها ؛ لأنها للمقاربة أو للشُّرُوع، بخلاف " عسى "، فإنها للترجِّي ؛ تقول :" عَسَى زَيْدٌ أَنْ يَقُومُ أَبُوهُ "، ولا يجوز ذلك في غيرها، فأما قوله :[الطويل] ٢٦١ - وَقَفْتُ عَلَى رَبْعٍ لِميَّةَ نَاقَتِي
فَمَا زِلْتُ أَبْكِي عِنْدَهُ وَأُخَاطِبُهْ
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٨٤
وَأَسْقِيهِ حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُثُّهُ
تُكَلِّمُني أَحْجَارُهُ وَمَلاَعِبُهْ
فأتى بالفاعل ظاهراً، فقد حمله بعضهم على الشُّذُوذ، ينبغي أن يقال : إنما جاز ذلك ؛ لأن الأحجار والملاعب هي عبارة عن الرَّبْعِ، فهي هو، فكأنه قيل : حتَّى كادَ يكلُّمُني ؛ ولكنه عبّر [عنه] بمجموع أجزائه.
وأما قول الآخَرِ :[البسيط] ٢٦٢ - وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا ما قُمْتُ يُثْقِلُني
ثَوْبِي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشَّارِبِ السَّكِرِ
وَكُنْتُ أَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ مُعْتَدِلاً
فَصِرْتُ أَمْشي عَلَى أُخْرَى مِنَ الشَّجَرِ
٣٩٦
فأتى [بفاعل] [خبر] جعل ظاهراً، فقد أجيب عنه بوجهين : أحدهما : أنه على حذْف مضاف، تقديره : وقد جعل ثوبي إذا ما قمت يثقلني.
والثاني : أنه من باب إقامة السَّبب مقام المُسَبَّبِ، فإن نهوضه كذا متسبَّب عن إثقال ثوبه إيَّاه، والمعنى : وقد جعلت أنهض نَهْضَ الشارب الثَّمل لإثقال ثوبي إيَّاي.
ووزن " كَادَ كَوِدَ " بكسر العين، وهي من ذوات الواو ؛ كـ " خَافَ " يَخَافُ، وفيها لغةٌ أخرى : فتح عينها، فعلى هذه اللُّغة تضم فاؤها إذا أسندت إلى تاء التكلّم وأخواتها، فتقول :" كُدْتُ، وكُدْنَا " ؛ مثل : قُلْتُ، وقُلْنَا، وقد تنقل كسر عينها إلى فائها مع الإسناد إلى ظاهر، كقوله :[الطويل] ٢٦٣ - وَكِيدَ ضِبَاعُ القُفِّّ يَأْكُلْنَ جُثَّتي
وَكِيدَ خِرَاشٌ عِنْدَ ذَلِكَ يَيْتَمُ
ولا يجوز زيادتها خلافاً [للأخفش]، وسيأتي إن شاء الله هذا كله في " كاد " الناقصة.
أما " كاد " التامة بمعنى " مَكَرَ " فوزنها فَعَل بفتح العَيْن من ذوات " الياء " ؛ بدليل قوله :﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً﴾ [الطارق : ١٥، ١٦].
و " البرق " اسمها، و " يخطف " خبرها ويقال : خَطِفَ يَخْطَفُ [بكسر عين الماضي، وفتح المضارع، وخَطَفَ يَخْطَفُ] عكس اللغة الأولى وفيه تراكيب كثيرة، والمشهور منها الأولى.
الثانية : يخطِف بكسر الطاء، قرأها مجاهد.
الثالثة : عن الحسن بفتح " الياء والخاء والطاء "، مع تشديد " الطاء "، والأصل :" يَخْتَطِفُ "، فأبدلت " تاء " الافتعال " طاء " للإدغام.
٣٩٧