" مَّن " للاستفهام ومحلُّها الرَّفع على الابتداءِ، و " ذا " اسمُ إشارةٍ خبرُهُ، و " الَّذِي " وصلتُهُ نعتٌ لاسم الإِشارةِ، أو بدلٌ منه، ويجوزُ أن يكونَ " مَنْ ذا " كلُّه بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ تركَّبا كقولك :" مَاذَا صَنَعْتَ " كما تقدَّمَ في قوله :﴿مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ﴾ [البقرة : ٢٦].
ومَنَع أبو البقاء هذا الوجه وفرَّق بينه وبين قولِكَ :" ماذا " حيثُ يُجْعَلان اسماً واحداً بأنَّ " ما " أشدُّ إيهاماً مِنْ " مَنْ " ؛ لأنَّ " مَنْ " لمَنْ يعقِلُ.
ولا معنى لهذا المنعِ بهذه العلةِ، والنحويون نَصُّوا على أنَّ حكمَ " مَنْ ذا " حكمُ " ماذا ".
ويجوز أن يكونَ " ذا " بمعنى الّذي، وفيه حينئذٍ تأويلان : أحدهما : أنَّ " الَّذِي " الثاني تأكيدٌ له ؛ لأنَّه بمعناه، كأَنَّهُ قيل : مَنِ الَّذِي يُقرِضُ الله قرضاً.
والثاني : أَنْ يكونَ " الذي " خبرَ مبتدأ محذوفٍ، والجملةُ صلةُ ذا، تقديرُه :" مَنْ الذي [هو الّذي] يُقْرِضُ، وذا وصلتهُ خبرُ " مَنِ " الاستفهاميّة.
أجاز هذين الوجهين ابن مالك، قال شهاب الدين وهما ضعيفان، والوجهُ ما قدَّمتُهُ.
وانتصَبَ " قَرْضاً " على المصدر على حذفِ الزَّوائِد، إِذ المعنى : إقراضاً كقوله :﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً﴾ [نوح : ١٧]، وعلى هذا فالمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُهُ :" يُقْرِضُ اللهَ مالاً وصدقةً "، ولا بدَّ من حذفِ مُضَافٍ تقديرهُ : يقرضُ عِبادَ اللهِ المحاويجَ، لتعاليه عن ذلك، أو يكونُ على سبيل التَّجُّوزِ، ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى المفعول نحو : الخَلْق بمعنى المخلُوق، وانتصابُهُ حينئذٍ على أنه مفعولٌ ثانٍ لـ " يُقْرِض ".
قال الواحديُّ : والقَرْضُ في هذه الآيةِ اسمٌ لا مصدر، ولو كان مصدراً ؛ لكان إقراضاً.
و " حَسَناً " يجوزث أَن يكونَ صفةً لقرضاً بالمعنيينِ المذكورين، ويجوزُ أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ، إذا جعلنا " قَرْضاً " بمعنى مفعول أي : إقراضاً حسناً.
٢٥٤
قوله :" فَيُضَاعِفَهُ " قرأ عاصمٌ وابن عامر هنا، وفي الحديد بنصب الفاء، إلاَّ أنَّ ابنَ عامر وعاصماً ويعقوب يشدِّدون العينَ من غير ألفٍ وبابه التشديد وقرأ أبو عمرو في الأحزاب والباقون برفعِها، إلاَّ أنَّ ابن كثير يشدِّد العينَ من غير ألفٍ ؛ فحصَلَ فيها أربعُ قراءتٍ.
أحدها : قرأ أبو عمرو ونافع، وحمزة، والكسائيُّ فيضاعفُهُ بالألف ورفع الفاء.
والثانية : قراءة عاصم " فيضاعفه " بالألف ونصب الفاء.
والثالثة : قرأ ابن كثير :" فَيُضَعِّفُهُ " بالتَّشديد، ورفع الفاءِ.
والرابعة : قرأ ابن عامرٍ فيضعِّفَه بالتَّشْديد، ونصب الفاء.
فالرَّفْعُ من وجهين : أحدهما : أنَّهُ عطفٌ على " يقرض " الصِّلةِ.
والثاني : أَنَّهُ رفعٌ على الاستئناف أي : فهو يُضاعِفُهُ، والأولُ أحسنُ لعدَمِ الإِضمارِ.
والنصبُ من وجهين : أحدهما : أنَّهُ منصوبٌ بإضمارٍ " أَنْ " عطفاً على المصدر المفهوم من " يقرضُ " في المعنى، فيكونُ مصدراً معطوفاً على مصدرٍ تقديرُهُ : مَنْ ذا الذي يكونُ منه إقراضٌ فمضاعفةٌ مِنَ اللهِ تعالى كقوله :[الوافر] ١١٥٣ - لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي
أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٥٤
والثاني : أنه نصبٌ على جوابِ الاستفهام في المعنى ؛ لأَنَّ الاستفهام وإِنْ وَقَعَ عن المُقْرِضِ لفظاً، فهو عن الإِقراضِ معنى كأنه قال : أيقرضُ اللهَ أَحَدٌ فيضاعفَه.
قال أبو البقاء :" ولا يجوز أن يكونَ جوابَ الاستفهام على اللفظ ؛ لأنَّ المُسْتَفْهَمَ عنه في اللَّفْظِ المُقرِضُ أي الفاعلُ للقَرْضِ، لا عن القَرْضِ، أي : الذي هو الفِعْلُ " وقد مَنَع بعضُ النَّحويّين النَّصبَ بعد الفاء في جواب الاستفهام الواقع عن المسندِ إليه الحكمُ لا عن الحُكم، وهو مَحْجوجٌ بهذه الآيةِ وغيرها، كقوله :" مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي ؛ فأغفرَ له، مَنْ يَدْعُونِي ؛ فأَسْتَجِيبَ له " بالنصبِ فيهما.
قال أبو البقاء : فإنْ قيلَ : لِمَ لاَ يُعْطَفُ [الفعل على] المصدرِ الذي هو " قرضاً " كما يُعْطَفُ الفعلُ على المصدرِ بإضمار " أَنْ " كقولِ الشاعر [الوافر]
٢٥٥
١١٥٤ - لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي
............................
قيل : هذا لا يصحُّ لوجهين : أحدهما : أنَّ " قرضاً " هنا مصدرٌ مؤكِّدٌ، والمصدرُ المُؤكِّدِ لا يُقَدَّرُ بـ " أَنْ " والفعلِ.
والثاني : أنَّ عطفَهُ عليه يُوجبُ أن يكونَ معمولاً ليقرضُ، ولا يصِحُّ هذا في المعنى ؛ لأَنَّ المضاعفةَ ليستُ مُقْرِضَةً، وإِنَّما هي فعلُ اللهِ تعالى، وتعليله في الوجهِ الأولِ يُؤذِنُ بأنه يُشترط في النصبِ أنْ يُعْطَفَ على مصدرس يتقدَّر بـ " أَنْ " والفعلِ، وهذا ليس بشرطٍ ؛ بل يجوزُ ذلك وإن كان الاسمُ المعطوفُ عليه غيرَ مصدرٍ ؛ كقوله :[الطويل] ١١٥٥ - وَلَوْلاَ رِجَالٌ مِنْ رِزَامٍ أَعِزَّةٍ
وآلُ سُبَيْعٍ أَوْ أَسُوءَكَ عَلْقَمَا


الصفحة التالية
Icon