ومن بين أبنائنا " كذا قدره أبو البقاء.
وقيل : إنَّ هذا على القلب، والأصل : وقد أُخرج أبناؤنا منا، ولا حاجة إلى هذا.
قوله تعالى :﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ﴾، فاعلم أن في الكلام محذوفاً تقديره : فسألوا الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكاً وكتب عليهم القتال فتولوا.
قوله :﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ نصبٌ على الاستثناء المتصل من فاعل " تَوَلَّوا " فإن قيل المستثنى لا يكون مبهماً، لو قلت :" قام القومُ لا رجالاً " لم يصحَّ، فالجواب إنما صحَّ هذا لأنَّ " قليلاً " في الحقيقة صفةٌ لمحذوفٍ، ولأنه قد تخصَّص بوصفه بقوله :" منهم "، فقرب من الاختصاص بذلك.
وقرأ أُبي :" إلاَّ أن يكون قليلٌ منهم " وهو استثناءٌ منقطعٌ، لأنَّ الكون معنًى من المعاني والمستثنى منه جثثٌ.
ولا بدّ من بيان هذه المسألة لكثرة فائدتها.
وذلك أنّ العرب تقول :" قام القوم إلا أنْ يكونَ زيدٌ وزيداً " بالرفع والنصب، فالرفع على جعل " كان " تامةً، و " زيدٌ " فاعلٌ، والنصب على جعلها ناقصةً، و " زيداً " خبرها، واسمها ضميرٌ عائدق على البعض المفهوم من قوة الكلام، والتقدير : قام القوم إلا أن يكون هو - أي بعضهم - زيداً، والمعنى : قام القوم إلا كون زيدٍ في القائمين، وإذا انتفى كونه قائماً انتفى قيامه، فلا فرق من حيث المعنى بين العبارتين، أعني " قام القوم إلا زيداً " و " قاموا إلا أن يكون زيداً "، إلا أن الأول استثناءٌ متصلٌ، والثاني منقطعٌ لما قررناه.
فصل وجه تعلُّق هذه الآية بما قبلها أنَّه تعالى لما فرض القتال بقوله :﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة : ٢٤٤]، ثمَّ أمر بالإنفاق فيه بقوله :﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ﴾ [البقرة : ٢٤٥] ذكر بعد ذلك هذه القصة تحريضاً على عدم تركهم مخالفة الأمر بالقتال، فإنَّهم لما أُمروا تولَّوا، وخالفوا ؛ فذمهم الله تعالى ونسبهم إلى الظُّلم بقوله :﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ والمراد التَّرغيب في الجهاد.
فصل فيمن هو النبي الذي نادى بالبعث في الآية اختلفوا في ذلك النبيِّ الذي قالوا له ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً﴾ من هو فقال قتادة : هو يوشع ابن نون بن أفرائيم بن يوسف لقوله تعالى :﴿مِن بَعْدِ مُوسَى ﴾ وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ قوله ﴿مِن بَعْدِ مُوسَى ﴾ كما لا يحتمل الاتصال بالتَّعاقب يحتمل البعديَّة بغير تعاقب، وإن كان بينهما غير يوشع ؛ لأنَّ البعديّة حاصلة، وذكر ابن عطيَّة في تضعيف هذا القول أنَّ مدَّة داود بعد موسى بقرون من النَّاس، ويوشع هو فتى موسى عليهما الصَّلاة والسَّلام.
وقال السُّدِّيُّ : اسمه شمعون سمَّته أُمُّه بذلك ؛ لأنَّها دعت الله أن يرزقها غلاماً، فاستجاب الله دعاءها، فسمته سمعون، أي : سمع الله دعائي، والسِّين تصير شيناً بالعبرانية وهو شمعون ابن صفيَّة بنت علقمة، من ولد لاوي بن يعقوب.
وقال سائر المفسِّرين : هو اشمويل بن هلقايا.
فصل كان سبب مسألتهم إيّاه ذلك ؛ لأنَّه لمَّا مات موسى خلف بعده في بني إسرائيل يوشع بن نون يقيم فيهم التَّوراة، وأمر الله، حتى قبضه الله، ثمَّ خلف فيهم " كالِب بْنَ يُوفَنَا " ؛ حتى قبضه الله، ثمَّ حزقيل حتى قبضه الله، ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل ونسوا عهد الله ؛ حتى عبدوا الأوثان، فبعث الله إليهم " إِلْياسَ " نبياً، فدعاهم إلى الله، وكانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى، يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التَّوراة، ثم خلف بعد " إِلْيَاسَ " " اَلْيَسَع "، وكان فيهم ما شاء الله ؛ حتَّى قبضه الله، وخلف فيهم الخلوف، وعظمت الخطايا وظهر لهم عدوٌّ يقال له البلثاثا، وهم قوم " جَالُوتَ "، كانوا يسكنون ساحل بحر الرُّوم، بين مصر، وفلسطين، وهم العمالقة، فظهروا على بني إسرائيل، وغلبوا على كثير من أرضهم، وسبوا كثيراً من ذراريهم، وأسروا من أبناء ملوكهم أربعين وأربعمائة غلام، وضربوا عليهم الجزية، وأخذوا توراتهم، ولقي بنو إسرائيل منهم بلاءً شديداً، ولم يكن لهم نبيٌّ يدبِّر أمرهم، وكان سبط النُّبوَّة قد هلكوا، فلم يبق منهم إلاَّ امرأة حبلى ؛ فحبسوها في بيت رهبة أن تلد جاريةً، فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها، وجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاماً ؛ فولدت غلاماً فسمته شمويل تقول : سمع الله دعائي، فكبر الغلام فأسلموه ليتعلم التَّوراة في بيت المقدس، وكفله شيخٌ من علمائهم وتبنَّاه، فلمَّا بلغ الغلام أتاه جبريل، وهو نائم إلى جنب الشَّيخ، وكان لا يأتمن عليه أحداً، فدعاه جبريل بلحن الشيخ : يا أُشمويل، فقام الغلام فزعاً إلى الشَّيخ قوال : يا أبتاه دعوتني ؟ فكره الشَّيخ أن يقول : لا فيفزع الغلام، فقال : يا بنيّ ارجع فنم، فرجع الغلام، فَنَامَ، ثمَّ دعاه الثَّانية، فقال الغلام : يا أَبَتِ دَعَوْتَنِي! ؟ فقال : ارجع فنم فإنْ دعوتُكَ الثَّالثة ؛ فلا تجبني، فلمَّا كانت الثَّالثة ظهر له جبريل فقال له : اذهب إلى قومك ؛ فبلغهم رسالة ربِّك، فإن الله قد بعثك فيهم