أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لقاءَه وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ " وهؤلاء المؤمنون، لما وطَّنُوا أنفسهم على القتل، وغلب على ظنهم أَنَّهُم يموتون وصفهم بأنهم يظنون أنهم ملاقوا ثواب الله.
وثانيها : قال أبو مسلم : معناه يظنون أَنَّهُم ملاقو ثواب الله بسبب هذه الطاعة، وذلك لأَنَّ أحداً لا يعلمُ بما فيه عاقبة أمره وَإِنَّما يكون ظاناً راجياً وإِن بلغ في طاعة الله ما بلغ.
وثالثها : أَنَّهم ذكروا في تفسير السَّكينة قول بعض المفسِّرين : إِنَّ التَّابوت كان فيه كُتُبٌ إِلَهيَّةٌ، نزلت على الأَنبياء المُتَقَدِّمين دالَّةٌ على حُصًولِ النَّصر، والظّفر لِطَالُوتَ، وجنوده ولكنه لم يكن في تلك الكُتُبِ أَنَّ النَّصْر والظّفر يحصلُ في المرةِ الأولى، أو بعدها، فهم وإِنْ كانوا قاطعين بالنصر ولكنهم ظَنُّوا : هل هُوَ في تلك المَرَّةِ، أو بعدَها ؟ ! رابعها : قال كثير من المفسرين : يظنون : أي يعلمون، فأطلق الظن وأراد به العلم كقوله تعالى :﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة : ٤٦] ووجه المجاز ما بين الظن واليقين من المشابهة في تأكيد الاعتقاد.
والمراد من قولهم :﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ تَقْويةُ قلوب الَّذِينَ قالوا :﴿لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ﴾، والمعنى : لا عِبرة بكثرةِ العددِ، وإِنَّما العبرةُ بالتَّأْييد الإِلهي، ثم قال :﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
وهذا من تَمامِ قولهم، ويحتمل أَنْ يكُونَ قولاً من اللهِ تعالى، والأَوَّلُ أَظهرُ.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٧٨
قوله تعالى :﴿بَرَزُواْ لِجَالُوتَ﴾ في هذه اللام وجهان : أحدهما : أنَّها تتعلَّق بـ " برزوا ".
والثاني : أنها تتعلَّقُ بمحذُوفٍ على أَنَّها ومجرورها حالٌ من فاعل :" بَرَزوا " قال أبو البقاء :" وَيَجُوزُ أن تكُونَ حالاً أي : برزوا قاصِدِين لِجَالُوتَ ".
ومعنى برزوا : صاروا إلى بَراز من الأرض، وهو ما انْكَشَفَ منها وَاسْتَوَى، وسميت المبارزة لظهور كُلّ قرنٍ
٢٨٨
لصاحبه، واعلم أَنَّ عسكر طالُوت لما برزوا عسكر جالوت، ورأوا قِلَّة جانبهم، وكثرة عدوهم، لا جرم اشتغلوا بالدُّعاء، والتَّضرع، فقالوا :﴿رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً﴾.
وفي ندائِهِم بقولهم :" رَبَّنَا " : اعترافٌ منهم بالعُبُوديَّة، وطلبٌ لإِصلاحهم ؛ لأَنَّ لفط " الرَّبَّ " يُشْعر بذلك دونَ غيرها، وأَتوا بلفظِ " عَلَى " في قولهم " أَفْرغ عَلَيْنَا " طلباً ؛ لأنْ يكونَ الصَّبْرُ مُسْتعلِياً عليهم، وشاملاً لهم كالظرفِ.
ونظيره ما حكى اللهُ عن قوم آخرين أَنَّهُم قالوا حين لاقوا عدوَّهم : ومَا كَانوا قَوْلَهُم إِلاَّ أَنْ قالُوا :﴿ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ [آل عمران : ١٤٧] ﴿وانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران : ١٤٧] وكذلك كان عليه الصَّلاة والسَّلام يفعل في المواطن كما رُوِيَ عنه في قصّة بدرٍ أنه عليه الصَّلاة والسَّلام لم يَزَلْ يُصَلِّي، ويستنجز من الله وعده، وكان إِذَا لقي عدُوّاً قال :" اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِم وَاجْعَلْ كَيْدَهُم فِي نُحُورِهِمْ " وكان يقول :" اللَّهُمَّ بِكَ أَصُولُ وَأَجُولُ ".
والإفراغ : الصَّبُّ، يقال : أفرغت الإِناءَ : إذا صببت ما فيه، أصله : من الفراغ يقال : فلان فارغٌ معناه : خالٍ ممَّا يشغله، والإفراغ : إخلاءُ الإناء من كلِّ ما فيه.
واعلم أنَّ الأمور المطلوبة عند لقاء العدو ثلاثة : الأول : الصَّبر على مشاهدة المخاوف وهو المراد بقولهم :﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾.
الثاني : أن يكون قد وجد من الآلات والأدوات ما يمكنه أن يقف ويثبت، ولا يصير ملجأ إلى الفرار.
الثالث : زيادة القوَّة على العدوِّ ؛ حتى يقهره، وهو المراد من قولهم " وانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ ".
فصل في دفع شبه المعتزلة في خلق الأفعال احتجَّ أهل السُّنَّة بقوله :﴿رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً...
الآية على أنَّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ؛ لأنه لا معنى للصَّبر إلاّ : القصد على الثبات ولا معنى للثبات إلاّ السُّكون والاستقرار، وهذه الآية دالَّة على أنَّ ذلك القصد بالصَّبر من الله تعالى.
أجاب القاضي : بأنَّ المراد من الصبر، وتثبيت الأقدام : تحصيل أسباب الصّبر، وأسباب ثبات القدم : إمَّا بأن يلقي في قلوب أعدائهم الاختلاف، فيعتقد بعضهم أنَّ البعض الآخر على الباطل، أو يحدث في ديارهم وأهليهم البلاء، كالموت، والوباء، أو يبتليهم بالموت، والمرض الذي يعمهم، أو يموت رئيسهم، ومن يدبّر أمرهم، فيكون ذلك سبباً لجرأة المسلمين عليهم.
٢٨٩


الصفحة التالية
Icon