ودفعوا ملكه بعد المسألة، وكذلك ما جرى من أمر النهر، فذكر ذلك كلَّه تسلية للرَّسول ﷺ عمّا رأى من قومه من التّكذيب والحسد، فقال : هؤلاء الرُّسل الذين كلَّم الله بعضهم، ورفع الباقين درجات، وأيّد عيسى بروح القدس، قد نالهم من قومهم ما ذكرناه لك من مشاهدة المعجزات، فلا يحزنك ما ترى من قومك، فلو شاء الله لم يختلف أمم أولئك، ولكن ما قضى الله فهو كائن، وما قدَّره، فهو واقع.
فصل في المراد من تلك الرُّسل أقوال : أحدها : أنَّ المراد من تقدم ذكرهم من الأنبياء في القرآن كإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وموسى وغيرهم - صلوات الله عليهم -.
الثاني : أنَّ المراد من تقدّم ذكرهم في هذه الآية كأشمويل، وداود، وطالوت على قول من يجعله نبيّاً.
الثالث : قال الأصمُّ : المراد منه الرُّسل الذين أرسلهم الله لدفع الفساد، وأشار إليهم بقوله :﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾ قوله تعالى :﴿فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ﴾ : يجوز أن يكون حالاً من المشار إليه، والعامل معنى الإشارة كما تقدَّم، وقال " تلك " ولم يقل أولئك الرُّسل ؛ لأنه ذهب إلى معنى الجماعة كأنه قيل : تلك الجماعة، ويجوز أن يكون مستأنفاً، ويجوز أن يكون خبر " تِلْكَ " على أن يكون " الرُّسل " نعتاً لـ " تِلْكَ "، أو عطف بيان أو بدلاً.
فصل في تفاضل الأنبياء أجمع الأمَّة على أنَّ الأنبياء بعضهم أفضل من بعضٍ، وأنَّ محمداً ﷺ أفضل من الكلِّ، ويدلُّ على ذلك وجوه : الأول : قوله تعالى :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء : ١٠٧] فلما كان رحمة للعالمين، لزم أن يكون أفضل من كلِّ العالمين.
الثاني : قوله :﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح : ٤] قيل فيه لأنه قَرَنَ ذكره بذكره في الشَّهادتين والأذان، والتّشهد، ولم يكن ذلك لسائر الأنبياء.
الثالث : أنه تعالى قرن طاعته بطاعته فقال :﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء : ٨٠] وبيعته ببيعته فقال :﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ [الفتح : ١٠] وعزته بعزته فقال :﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ﴾ [المنافقون : ٨] ورضاه برضاه فقال :﴿أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة : ٦٢]، وإجابته بإجابته فقال :﴿اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم﴾ [الأنفال : ٢٤].
٢٩٨
الرابع : أنَّ معجزات سائر الأنبياء قد ذهبت، ومن بعض معجزاته - عليه الصَّلاة والسَّلام - القرآن، وهو باقٍ إلى آخر الدَّهر.
الخامس : قوله تعالى بعد ذكر الأنبياء :﴿أُوْلَـائِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام : ٩٠] فأمر محمداً بالاقتداء بهم، وليس هو الاقتداء في أصول الدين ؛ لأن شرعه نسخ سائر الشّرائع، فلم يبق إلا أن يكون الاقتداء في محاسن الأخلاق، فكأنه تعالى قال : إنّي أطلعتك على أحوالهم وسيرهم، فاختر أنت أجودها، وأحسنها.
فمقتضى ذلك أنه اجتمع فيه من الخصال ما كان متفرقاً فيهم، فوجب أن يكون أفضل منهم.
السادس : أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - بعث إلى الخلق كلهم، فوجب أن يكون مشقته أكثر من بعث إلى بعضهم، فإذا كانت مشقته أكثر كان أجره أكثر، فوجب أن يكون أفضل.
السابع : أن دين محمَّد أفضل الأديان ؛ فيلزم أن يكون محمد ﷺ أفضل الأنبياء.
بيان الأول : أنَّ الله تعالى جعل دينه ناسخاً لسائر الأديان، والنَّاسخ أفضل من المنسوخ، قال تعالى :﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران : ١١٠].
وإنَّما نالت الأمة هذه الفضيلة لمتابعة النبي ﷺ وفضيلة التابع توجب فضيلة المتبوع.
الثامن : قال ﷺ :" آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ القِيَامَةِ " وذلك يدل على أنه أفضل من آدم، ومن كل أولاده، وقال ﷺ :" أَنَّا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ " وقال ﷺ :" لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَحَدٌ النَّبيِّين حَتَّى أَدْخُلَهَا أَنَا، ولا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ مِنَ الأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتي " وروى أنس أنه ﷺ قال :" أَنَا أَوَّل النَّاسِ خُرُوجاً إِذَا بُعِثُوا، وَأَنا خَطِيبُهُم إِذَا وَفَدُوا، وَأَنَّا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أيسُوا، وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلى رَبِّي وَلاَ فَخْرَ ".
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : جلس ناسٌ من الصَّحابة يتذاكرون فسمع رسول الله ﷺ حديثهم فقال بعضهم : عجبأ إنَّ الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وقال آخر : ماذا بأعجب من كلام موسى كلمه تكليماً، وقال آخر : فعيسى كلمة الله وروحه.
وقال آخر :
٢٩٩


الصفحة التالية
Icon