أوتي نبي آية إلا أُوتي نبينا مثل تلك الآية، وفضل على غيره بآيات مثل انشِقاق القمر بإشارته، وحنين الجذع على مفارقته، وتسليم الحجر والشّجر عليه، وكلام البهائم، والشَّهادة برسالته، ونبع المَاءِ من بين أصابعه وغير ذلك من المُعجزات، والآيات الَّتي لا تحصى وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السَّماء والأَرض عن الإتيان بمثله.
قوله :﴿مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ﴾ هذه الجملة تحتملُ وجهين : أحدهما : أَنْ تكونَ لا مَحَلَّ لها من الإِعرابِ لاستئنافها.
والثاني : أنها بدلٌ من جملةِ قوله " فَضَّلْنا ".
والجمهورُ على رفع الجلالة على أنه فاعلٌ، والمفعولُ محذوفٌ وهو عائدُ الموصولِ أي : مَنْ كَلَّمه الله كقوله :﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ﴾ [الزخرف : ٧١].
وقُرئ بالنصبِ على أنَّ الفاعل ضميرٌ مُستترٌ وهو عائدُ الموصولِ أيضاً، والجلالةُ نَصْبٌ على التَّعظيم.
وقرأ أبو المتوكل وابن السَّميفع :" كالَمَ اللهَ " على وزن فاعَلَ، ونصبِ الجلالةِ، و " كَليم " على هذا معنى مُكَالِم نحو : جَلِيس بمعنى مُجالِس، وخليط بمعنى مخالطٍ.
وفي هذا الكلامِ التفاتٌ ؛ لأنه خروجٌ من ضَمِيرِ المتكلّمِ المعظِّم نفسَه في قوله :" فَضَّلْنا " إلى الاسمِ الظَّاهِر الَّذشي هو في حُكْمِ الغائِبِ.
فضل في كلام اللهِ المسموع اختلفوا في ذلك الكلامِ، فقال الأشعري وأتباعه هو الكلامُ القديم الأزليُّ الذي ليس بحرف، ولا صوت قالوا : كما أَنَّه لم يمتنع رُؤية ما ليس بمكيف، فهكذا لا يستبعد سماع ما ليس بمكيف.
وقال الماتريديُّ : سماع ذلك الكلام محالٌ إِنَّما المَسْموع هو الحرف والصَّوت.
فصل في المراد بالمُكلَّم اختلفوا هل المُرادُ بقوله :﴿مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ﴾ هل هو موسى وحده أم هو وغيره فقيل : موسى - ﷺ - وحده، وقيل : بل هو وغيره.
قالوا : وقد سمع من قوم موسى السّبعون المختارون، وسمع محمد - ﷺ - ليلة المِعراج بدليل قوله :﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى ﴾ [النجم : ١٠] فإن قيل : قوله تعالى :﴿مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ﴾ إِنَّما ذكره في بيان غاية المنقبة والشّرف لأولئك الأَنبياء الذين كلّمهم
٣٠٣
الله تعالى، وقد جاء في القرآن، مكالمة بين الله، وبين إبليس، حيث قال :﴿فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ إلى آخر الآيات [الحجر : ٣٦ - ٣٨] وظاهرها يدلُّ على مكالمة كثيرة بين اللهِ، وبين إبليس، فإن كان ذلك يوجب غاية الشَّرف، فكيف حصل لإبليس ؟ فإن لم يوجب شَرَفاً، فكيف ذكره في معرض التَّشريف لموسى - ﷺ - حيث قال :﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً﴾ [النساء : ١٦٤].
فالجواب : من وجهين : أحدهما : أَنَّهُ ليس في قِصَّة إبليس ما يدلُّ على أَنَّ الله تعالى قال في تلك الأجوبة معه من غير واسطة، فلعلَّ الواسطة كانت موجودة.
الثاني : هَبْ أَنَّهُ كان من غير واسطةٍ، ولكن مكالمة بالطَّرد واللَّعن فإِنَّ الله يكلِّم خاصَّتَهُ بما يحبُّونَ من التَّقرُّب والإكرام، ويكلّم من يَهينُهُ بالطَّرْدِ واللَّعْنِ والكلام الموحش فإنه وإِن كان منهما مكالمة لكن إحداهما توجب التَّقرُّبَ والتَّشريف والإكرام، والأخرى تُوجِبُ البُعدَ، والإِهانة والطَّرد.
قوله :﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾.
في نصبه ستَّةُ أوجهٍ : أحدها : أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال.
الثاني : أَنَّهُ حالٌ على حذفِ مُضَافٍ، أي : ذوي درجاتٍ.
الثالث : أَنَّهُ مفعولٌ ثانٍ لـ " رفع " على أَنَّهُ ضُمِّنَ معنى بلَّغ بعضهم درجات.
الرابع : أنه بدلُ اشتمالٍ، أي : رفع درجاتٍ بعضهم، والمعنى : على درجاتِ بعض.
الخامس : أنه مصدرٌ على معنى الفعل لا لفظه ؛ لأَنَّ الدّرجة بمعنى الرَّفعة، فكأنه قيل : ورَفَع بعضهم رَفعاتٍ.
السادس : أنه على إِسْقاط الخافضِ، وذلك الخافضُ يَحْتمل أن يَكُون " عَلَى " أو " فِي "، أو " إلى " تقديره : على درجاتٍ أو في درجاتٍ أو إلى درجات، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجر انتصَبَ ما بعده.
فصل في المراد بالدَّرجات في تلك الدَّرجات وجوهٌ : أحدها : أَنَّ المُراد منه بيان أَنَّ مراتِب الرُّسل، ومناصبهم متفاوتة ؛ وذلك لأَنَّه تعالى اتَّخَذ إبراهيم خَلِيلاً، ولم تكن هذه الفضيلة لغيره وجمع لِدَاوُد بين المُلْكِ، والنُّبوَّةِ، ولم يحصل هذا لغيره، وسخَّر لِسُليمان الجِنّ والإنس، والطير، والريح، ولم يحصل هذا
٣٠٤