وكُرّرت " لاَ " في قوله تعالى :﴿وَلاَ نَوْمٌ﴾ تأكيداً، وفائدتها انتفاء كلِّ واحدٍ منهما، ولو لم تذكر لاحتمل نفيهما بقيد الاجتماع، ولا يلزم منه نفيُ كلِّ واحدٍ منهما على حدته، ولذلك تقول :" مَا قَامَ زيدٌ، وعمرو، بل أحدهما "، [ولو قلت :" مَا قَامَ زيدٌ وَلاَ عمْرو، بل أحدهما " ] لم يصحَّ.
فصل في تفسير " الوَسْنَانِ " والوسنان : بين النَّائم، واليقظان، والنَّوم : هو الثَّقيل المزيل للقوَّة والعقل.
وقيل السِّنة : أوَّل النَّوم، وهو النُّعاس، والنَّوم : غشيةُ ثقيلةٌ تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء.
قيل : إنَّ النَّوم عبارةٌ عن ريح تخرج من أعصاب الدِّماغ فإذا وصلت العينين، حصل النُّعاس، وإذا وصلت إلى القلب، حصل النوم.
فصل والمعنى : لا يغفل عن شيءٍ دقيقٍ، ولا جليلٍ، فعبَّر بذلك عن الغفلة، لأنه سببها، فأطلق اسم السَّبب على مسببه.
نفى الله - تعالى - عن نفسه النَّوم، لأنَّه آفةٌ وهو منزَّهٌ عن الآفات ؛ ولأنَّهُ تغيُّرٌ، ولا يجوز عليه التَّغيُّر.
عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله ﷺ بخمس كلمات، فقال :" إنَّ اللهَ لاَ يَنَامُ، وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، وَلَكِنَّهُ يَخْفِضُ بَالْقِسْطِ، ويَرْفَعُهُ وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وجهه مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ".
يروى عن رسول الله ﷺ أنه حكى عن موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنَّه وقع في نفسه هل ينام الله تعالى! فأرسل إليه ملكاً فأرَّقه ثلاثاً، ثمَّ أعطاه قارورتين في كلِّ يدٍ واحدة، وأمره بالاحتفاظ بهما وكان يتحرَّز بجهده ألا ينام، فنام في آخر الأمر، فاطفقت يداه وانكسرت القارورتان فضرب الله - تعالى - ذلك مثلاً له في بيان أنَّه لو كان ينام ؛ لم يقدر على حفظ السَّموات والأرض.
٣١٨
واعلم أنَّ مثل هذا لا يمكن نسبته إلى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - فإن كلَّ من جوَّز النَّوم على الله - تعالى - أو كان شاكاً في جوازه كفر، فكيف يجوز نسبة هذا إلى موسى - عليه السَّلام - فإن صحَّت هذه الرواية فالواجب نسبة هذا السُّؤال إلى جهال قومه.
قوله :﴿لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ هي كالتي قبلها إلاَّ في كونها تأكيداً، و " ما " للشُّمول، واللاّم في " لَهُ " للملك، وكرَّر " مَا " تأكيداً، وذكرها هنا المظروف دون الظرف ؛ لأنَّ المقصود نفي الإلهيَّة عن غير الله تعالى، وأنه لا ينبغي أن يعبد إلاّ هو، لأنَّ ما عبد من دونه في السَّماء كالشَّمس، والقمر، والنجوم أو في الأرض كالأصنام وبعض بني آدم، فكلُّهم ملكه تعالى تحت قهره، واستغنى عن ذكر أنَّ السَّموات، والأرض ملكٌ له بذكره قبل ذلك أنه خالق السَّموات والأرض.
فصل لما كان المراد من هذه الإضافة الخلق، والملك، احتجوا بهذه الآية الكريمة على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.
قالوا : لأنَّ قوله تعالى ﴿لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ يتناول كل ما في السموات والأرض، وأفعال العباد من جملة ما في السَّموات والأرض، فوجب أن تكون منتسبة إلى الله تعالى انتساب الملك والخلق.
فإن قيل : لم قال " لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ " ولم يقل من في السموات.
فالجواب : لما كان المراد إضافة كلِّ ما سواه إليه بالمخلوقيّة، وكان الغالب عليه ما لا يعقل، أجرى الغالب مجرى الكلِّ، فعبر عنه بلفظة " مَا "، وأيضاً فهذه الأشياء إنَّما أسندت إليه من حيث إنَّها مخلوقة، وهي غير عاقلةٍ، فعبر عنه بلفظ " مَا " للتنبيه على أنَّ المراد من هذه الإضافة إليه الإضافة من هذه الجهة.
قوله :﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ﴾ كقوله :﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ﴾ [البقرة : ٢٤٥].
قال القرطبيُّ :" مَنْ " رفع بالابتداء، و " ذَا " خبره، و " الَّذِي " نعتٌ لـ " ذَا "، أو بدل ولا يجوز أن تكون " ذا " زائدة كما زيدت مع " مَا " ؛ لأنَّ " ما " مبهمة، فزيدت " ذا " معها لشبهها بها.
و " مَنْ "، وإن كان لفظها استفهاماً فمعناه النَّفي، ولذلك دخلت " إلاَّ " في قوله :﴿إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾.
و " عِنْدَهُ " فيه وجهان :
٣١٩


الصفحة التالية
Icon