واعلم أنه يقال : وَسِعَ فلاناً الشَّيء يَسعهُ سَعَةً إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به، ولا يسعك هذا أي : لا تطيقه ولا تحتمله، ومنه قوله ﷺ :" لَوْ كَانَ مُوسَى حَيّاً مَا وَسِعَهُ إِلاَّ اتِّبَاعِي " أي : لا يحتمل غير ذلك.
والكُرْسِيُّ : الياء فيه لغير النَّسب، واشتقاقه من الكِرْسٍ، وهو الجمع ؛ ومنه الكُرَّاسة للصَّحائف الجامعة للعلم ؛ ومنه قول العجَّاج :[الرجز] ١١٧٨ - يَا صَاحِ، هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسا ؟
قَالَ : نَعَمْ، أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣١٣
وقيل : أصله من تراكب الشَّيء بعضه على بعض، ومنه الكرس أبوال الدَّوابِّ وأبعارها يتلبد بعضها فوق بعض.
[وأكرست الدَّار : إذا كثرت الأبعار والأبوال فيها، وتلبَّد بعضها فوق بعض]، وتكارس الشَّيء : إذا تركب ومنه الكرَّاسة، لتركب بعض الأوراق على بعضٍ.
و " الكُرْسِيُّ " هو هذا الشَّيء المعروف لتركب خشباته بعضها فوق بعضٍ.
وجمعه كراسيّ كبُخْتِيّ وبَخَاتِيّ، وفيه لغتان : أشهرهما ضمُّ كافه، والثانية كسرها، وقد يعبَّر به عن الملك ؛ لجلوسه عليه، تسميةً للحالِّ باسم المحلِّ ؛ ومنه :[الرجز] ١١٧٩ - قَدْ عَلِمَ القُدُّوسُ مَوْلَى القُدْسِ
أَنَّ أَبَا العَبَّاسِ أَوْلَى نَفْسِ
في مَعْدِنِ المَلْكِ القَدِيمِ الكُرْسِي
وعن العلم ؛ تسميةً للصفة باسم مكان صاحبها ؛ ومنه قيل للعلماء :" الكَرَاسِيّ " ؛ قال القاتل :[الطويل] ١١٨٠ - يَحُفُّ بِهِمْ بِيضُ الوُجُوهِ وَعُصْبَةٌ
كَرَاسِيُّ بِالأَحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ
وصفهم بأنهم عالمون بحوادث الأمور، ونوازلها ؛ ويعبَّر به عن السَّرِّ، قال :[البسيط] ١١٨١ - مَا لِي بِأَمْرِكَ كُرْسِيٌّ أُكَاتِمُهُ
وَلاَ بِكُرْسِيِّ - عَلْمَ اللهُ - مَخْلُوقِ
وقيل : الكرسيُّ لكلِّ شيء : أصله.
فصل في حقيقة " الكُرْسِيّ " واختلفوا فيه على أربعة أقوال :
٣٢٢
أحدها : أنَّه جسم عظيم يسع السَّموات، والأرض قال الحسن : هو العرش نفسه.
وقال أبو هريرة : الكرسيُّ : موضوعٌ أمام العرش ومعنى قوله :﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ أي : سعته مثل سعة السَّموات والأرض.
وقال السُّدِّيُّ : إنَّه دون العرش، وفوق السَّماء السَّابعة، وفي الأخبار أن السموات والأرض في جنب الكرسيّ كحلقة في فلاةٍ، والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاةٍ.
وأمّا ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : الكرسيُّ : موضع القدمين فمن البعيد أن يقول ابن عباس هو موضع القدمين لأن الله سبحانه وتعالى منزه عن الجوارح.
وثانيها : أنَّ " الكرسي " هو السُّلطان، والقدرة، والملك.
ثالثها : هو العلم، لأنَّ العلم هو الأمر المعتمد عليه " والكُرْسِيُّ " هو الشَّيء الذي يعتمد عليه، وقد تقدَّم هذا.
ورابعها : ما ختاره القفَّال وهو : أنَّ المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه ؛ لأنَّه خاطب الخلق في تعريف ذاته، وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم، وعظمائهم كما جعل الكعبة بيتاً له يطوف النَّاس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم، وأمر النَّاس بزيارته، كما يزورون بيوت ملوكهم.
وذكر في الحجر الأسود :" أنَّهُ يمين اللهِ في أَرْضِهِ " وجعله موضوعاً للتقبيل كما
٣٢٣
يقبل الناس أيضاً أيدي ملوكهم، و
٢٦٤
كذلك ما ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشُّهداء، ووضع الميزان، فعلى هذا القياس أثبت لنفسه العرش في قوله :﴿الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه : ٥] ووصف العرش بقوله :﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ﴾ [هود : ٧] ثم قال :﴿وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ﴾ [الزمر : ٧٥] ثم قال :﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ [الحاقة : ١٧] وقال :﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ﴾ [غافر : ٧]، وكذلك إثبات الكرسيّ.
وقال ابن الخطيب - رحمه الله - : وهذا جوابٌ مبيّن إلاَّ أنَّ المعتمد هو الأوَّل، وأنَّ ترك الظَّاهر بغير دليل لا يجوز.
قوله :﴿وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ يقال : آده كذا، أي : أثقله، ولحقه منه مشقَّةٌ ؛ قال القائل :[الطويل] ١١٨٢ - أَلاَ مَا لِسَلْمَى اليَوْمَ بَتَّ جَدِيدُهَا
وَضَنَّتْ وَمَا كَانَ النَّوَالُ يُؤُودُها
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣١٣
أي : يثقلها، ومنه الموءودة للبنت تدفن حيّة، لأنَّهم يثقلونها بالتُّراب.
وقرئ :" يَوْدُهُ " بحذف الهمزة، كما تحذف همزة " أُنَاسٍ "، وقرئ " يُوُودُهُ " بإبدال الهمزة واواً.
و " حِفْظ " : مصدرٌ مضافٌ لمفعوله، أي : لا يَئُودُهُ أن يحفظهما.
و " العَلِيُّ " أصله :" عَلْيِوٌ "، فأُدْغِمَ ؛ نحو : مَيِّتٍ ؛ لأنَّه من علا يعلو ؛ قال القائل في ذلك البيت :[الطويل] ١١٨٣ - فَلَمَّا عَلَوْنَا وَاسْتَوَيْنَا عَلَيْهِمُ
تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وَكَاسِرِ