وَطَائِفَةٌ قَالُوا مُسِيٌ وَمُذنِبُ
قوله :﴿مِنَ الْغَيِّ﴾ متعلِّقٌ بتبيَّن، و " مِنْ " للفصل، والتمييز كقولك : ميَّزت هذا من ذاك.
وقال أبو البقاء :" في موضع على أنَّه مفعولٌ " وليس بظاهرٍ ؛ لأنَّ معنى كونه مفعولاً به غير لائقٍ بهذا المحلِّ.
ولا محلِّ لهذه الجملة من الإعراب ؛ لأنَّها استئنافٌ جارٍ مجرى التّعليل لعدم الإكراه في الدين.
والتّبيين : الظهور والوضوح، بان الشَّيء، واستبان، وتبيَّين : إذا ظهر ووضح ومنه المثل : تَبَيَّنَ الصُّبح لذي عينين.
قال ابن الخطيب : وعندي أنَّ الإيضاح، والتعريف، إنَّما سمِّي بياناً ؛ لأنَّه يوقع الفصلة، والبينونة بين المقصود وغيره.
والغيُّ : مصدر غوى بفتح العين قال :﴿فَغَوَى ﴾ [طه : ١٢١]، ويقال :" غَوَى الفَصِيلُ " إذا بَشِمَ، وإذا جاع أيضاً، فهو من الأضداد.
وأصل الغيّ :" غَوْيٌ " فاجتمعت الياء والواو، فأُدغمت نحو : ميّت وبابه.
والغيُّ : نقيض الرُّشد : يقال : غَوَى يَغْوِي، غيّاً، وغَوَايَةٌ إذا سلك خلاف طريق الرُّشد.
فصل في معنى " الدِّين " في الآية قال القرطبيُّ : المراد " بالدِّينِ " في هذه الآية الكريمة المعتقد، والملة بدليل قوله ﴿قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾.
قال سعيد بن جبير عن ابن عبَّاس : كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة، لا يعيش لها ولد، فكانت تنذر لئن عاش لها ولد لتهودنَّه فإذا عاش ولدها جعلته في اليهوديَّة.
فلمَّا جاء الإسلام، وفيهم منهم، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم عددٌ من أولاد الأنصار، فأرادت الأنصار استردادهم، وقالوا : أبناؤنا وإخواننا، فنزلت :﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، فقال رسول الله ﷺ :" قَدْ خَيَّرَ اللهُ أَصْحَابَكُمْ، فإن اخْتَارُوكم فهم منكم، وإن اخْتَارُوهم، فأجلوهم مَعَهمْ ".
وقال مجاهد : كان ناسٌ مسترضعين في اليهود من الأوس، فلما أمر النبي ﷺ بإجلاء بني النّضير قال الذين كانوا مسترضعين فيهم : لنذهبنّ معهم ولندينن بدينهم،
٣٢٨
فمنعهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام فنزلت ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ...
﴾.
وقال مسروقٌ : كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان متنصّران قبل مبعث النَّبي ﷺ ثم قدما المدينة في نفر من النَّصارى يحملون الطَّعام فلزمهما أبوهما، وقال لا أدعكما حتى تسلما فأبيا أن يسلما فاختصموا إلى رسول الله ﷺ فقال :" يَا رَسُولَ الله أَيَدْخُلُ بعضي النَّار وأنا أَنْظُرُ، فأنزل الله تعالى ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، فخلى سبيلهما.
وقال قتادة وعطاء : نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية، وذلك أنَّ العرب كانت أُمَّة أمّية لم يكن لهم كتاب، فلم يقبل منهم إلاَّ الإسلام، فلما أسلموا طوعاً، أو كرهاً ؛ أنزل الله تعالى ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ ؛ فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا، أو يقرُّوا بالجزية، فمن أعطى منهم الجزية، لم يكره على الإسلام.
وقال ابن مسعود كان هذا في ابتداء الإسلام، قبل أن يؤمر بالقتال، فصارت منسوخة بآية السَّيف.
ومعنى ﴿تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾، أي : تميَّز الحقّ من الباطل، والإيمان من الكفر، والهدى من الضّلالة بالحجج والآيات الظَّاهرة.
قوله :﴿بِالطَّاغُوتِ﴾ متعلِّقٌ بـ " يَكْفر "، والطاغوت بناء مبالغةٍ كالجبروت والملكوت.
واختلف فيه، فقيل : هو مصدرٌ في الأصل، ولذلك يوحَّد ويذكَّر، كسائر المصادر الواقعة على الأعيان، وهذا مذهب الفارسيّ، وقيل : هو اسم جنس مفردٍ، فلذلك لزم الإفراد والتَّذكير، وهذا مذهب سيبويه رحمه الله.
وقيل هو جمعٌ، وهذا مذهب المبرّد، وهو مؤنّث لقوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا ااْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ﴾ [البقرة : ٢٥٧] قال أبو علي الفارسي : وليس الأمر كذلك، لأن " الطَّاغُوتَ " مصدر كالرّغبوت، والرَّهبوت، والملكوت، فكما أنَّ هذه الأسماء آحاد، كذلك هذا الاسم مفردٌ، وليس بجمع ومما يدلّ على أنَّه مصدر مفرد وليس بجمع قوله تبارك وتعالى :﴿أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ﴾، فأفرد في موضع الجمع، كما يقال هم رضاً، وهم عدل انتهى.
وهو مؤنَّث لقوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا﴾ [الزمر : ١٧].
٣٢٩